أية حظوظ لمبادرة السلام الصينية في أوكرانيا؟

محمود الريماوي

حرير- نجحت الصين في اختيار الظرف المناسب للإعلان عن قرب تقديمها مبادرة سلامٍ لوقف الحرب في أوكرانيا، فقبل أيام من إتمام العام الأول للحرب، وفي محفل دوليٍّ معنيٍّ بقضية الأمن في العالم، خاطب وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، مؤتمر الأمن الدولي التاسع والخمسين في ميونخ بقوله “سنقدم شيئاً، وهو الموقف الصيني من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية… سنقف بحزم إلى جانب السلام والحوار”. وقد سارعت دول عديدة، بينها ألمانيا وإيطاليا، إلى الترحيب بالمبادرة الصينية، وكان الوزير قد زارهما ضمن جولة أوروبية له شملت أيضاً فرنسا وهنغاريا. وقد أشار، في كلمته، إلى أنه سيذهب إلى موسكو، بعد انتهاء الاجتماعات في ميونخ، “للتحدّث مع الروس”. وقد ذهب بالفعل إلى هناك الأربعاء 22 فبراير/ شباط الجاري، واستقبله الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين، وتباحثا في الأمر، من دون أن تظهر مؤشّراتٌ على الموقف الروسي، فيما أثنى الوزير الصيني على ما اعتبره استعداد موسكو للحوار والتفاوض.

ورغم أن مؤتمر الأمن شهد لقاء بين الوزير الصيني ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن، إلا أن اللقاء لم تنعكس عليه الاستعدادات الصينية لطرح مبادرة سلمية (تردّد أنها تتضمّن 12 بنداً)، إذ ساد التوتر جو اللقاء، وسط تحذيرات أميركية للصين من تزويد روسيا بأسلحة فتّاكة، فيما أبدى الوزير الصيني مجدّداً استياء بلاده من التعامل الأميركي مع المنطاد الصيني في الأجواء الأميركية، فضلاً عن إبداء الاستياء من الموقف الأميركي تجاه تايوان “التي لم تكن دولة ولن تكون دولة”، وفق رئيس الدبلوماسية الصينية (صفته الرسمية: رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني).

إنها مفارقة غريبة أن تبدي بكين (أو بيجين) استعدادها لطرح مقترحاتٍ سلمية، في وقت تتوتر فيه علاقاتها مع واشنطن، وكان من علامات التوتر أن الوزير الأميركي بلينكن قد أرجأ إلى وقت غير محدد زيارةً كان من المقرّر أن يقوم بها إلى العاصمة الصينية في فبراير/ شباط الجاري. وعلى الرغم من هذا التوتر، تدرك الصين الحاجة الأميركية إلى وقف الحرب في أوكرانيا، فيما تمتنع عن إدانة هذه الحرب، مكتفية بإبداء اعتراضها على العقوبات الغربية على موسكو، والدعوة إلى اختيار سبيل الحوار والتفاوض، بدلاً من فرض عقوبات، مع تجاهل أن موسكو لجأت إلى غزو أراضي جارتها أوكرانيا، بدلاً من اتّباع سياسة الحوار والتفاوض معها. مع ذلك، كان لدى بكين ما تقوله في معرض التهيئة لطرح مبادرتها، إذ شدّد وانغ يي، أمام المؤتمر الأمني الدولي، على أن “هذه الحرب لا يمكن أن تستمرّ في الاشتعال. وحدة أراضي جميع الدول وسيادتها سيتم احترامها في اقتراح الصين”. وهذا التزامٌ شديد الأهمية، بل جوهري، على أن الأكثر أهمية منه كيفية ترجمة هذا المبدأ الذي يقرّه ميثاق الأمم المتحدة، في بنود المبادرة العتيدة. مع تساؤل بشأن مغزى خلو نتائج اللقاء مع بلينكن في ميونخ من أية إشارة إلى المبادرة الصينية المزمعة. وهل من الممكن التقدّم بهذه المبادرة من غير عرضها على المسؤولين الأميركيين؟ والجواب بالنفي، علماً أن أحداً لا يدري ماذا في جعبة الدبلوماسية الصينية من أجندة اتصالاتٍ ومشاوراتٍ، علنية ومكتومة، في هذه الفترة الدقيقة. ولا يتعلق الأمر بواشنطن وحدها، إذ إن الوزير الصيني أو أياً من مسؤولي بلاده لم يتحرّك بعد تجاه كييف، وهي الطرف المباشر في الصراع، إضافة إلى أن أوكرانيا تعتبر جزءاً من خطة طريق الحرير الصينية، ما يجعل من زيارتها في هذا الظرف من مسؤول صيني لو جرت برهاناً على احترام الصين سيادة جميع الدول ووحدتها. وإذا كان الاقتراح يعكس جرأة صينية في المبادرة، فقد كان الأمر يتطلب وما زال جرأة صينية في زيارة العاصمة التي تتعرّض للحرب، ومن دون التفريط بالعلاقة الاستراتيجية مع موسكو.

كان من المثير للاهتمام أن أرفع مسؤول دبلوماسي صيني قد اختار زيارة أربع عواصم أوروبية تمهيداً لإطلاق المبادرة، وقد اختار أن يزور هنغاريا ذات الهوى الروسي، بدلاً من زيارة المملكة المتحدة العضو الدائم في مجلس الأمن. وبدت الخارجية الصينية على درجةٍ من الحماسة لدور أوروبي في تبنّي المبادرة وإسنادها، وهو ما عكسه بيان للوزارة الأحد الماضي، ورد فيه أن “بكين تعتزم في جهودها الدبلوماسية العمل بتعاون وثيق مع دول أوروبا”، وذلك بما يجدّد الرهان على دور أوروبي مستقلّ عن واشنطن في إنهاء الحرب الطاحنة، غير أن دلائل الأسابيع الأخيرة على الأقل تُظهر أن دولاً، مثل ألمانيا، باتت مستعدّة للاستجابة للتحدّي الروسي، ولن تقبل بإنهاء الحرب عبر مسايرة الكرملين، وعلى حساب سيادة أراضي أوكرانيا ووحدتها، وأن المواقف الغربية باتت أقرب إلى الاتحاد في المجالات السياسية والاقتصادية، وليس في المجال العسكري فحسب، الذي يمثله الانضواء في حلف الناتو، كما أن دول القارّة نجحت في استيعاب صدمة التزوّد بالنفط والغاز الروسيين، بعد أن مضى من فصل الشتاء أكثر من نصفه، فيما تبقى الأسواق الأوروبية مفتوحةً أمام تدفّق السلع الصينية.

تستحقّ مبادرة جدّية تطرحها الصين كل النجاح، بل هي قابلة للنجاح، فهي قوة دولية وازنة على مختلف الصُعد، ويُعيرها الغرب كل اهتمام، وهي من أكثر الدول قدرة على التأثير على الموقف الروسي، فالحرب على الجارة أوكرانيا لم تكن نشاطاً من أنشطة الطبيعة، فلا هي بزلزال ولا بركان أو إعصار، بل نجمت عن قرار منفرد اتّخذه الكرملين يتعلق أساساً بما تراه موسكو من “حدود تاريخية للإمبراطورية الروسية” تستحقّ الانبعاث والرسم، ولو بمسمّى جديد.

وكي تبقى روسيا سوقاً للبضائع وللاستثمارات الصينية في قطاعاتٍ حيوية، فلا بد من وقف الحرب للحدّ من مسلسل الخسائر والأضرار التي تلحق بالاقتصاد الروسي الذي بات اقتصاد حربٍ طاحنةٍ، لا اقتصاد سلام وتنمية. ومع طموح الصين المعلن إلى عالمٍ متعدّد الأقطاب، فإن هذه التعدّدية تستحقّ بناء عالم يسودُه الأمن والعدالة، وليس تهديد الدول الكبيرة تلك “الصغيرة”، أو افتتاح هذا العالم الجديد بحربٍ تدميريةٍ تطاول ملايين المدنيين وسائر القطاعات المدنية قبل العسكريين والمنشآت العسكرية.

مقالات ذات صلة