نهاية الحرب ومحنة الوجود الفلسطيني

سامح المحاريق

حرير- تسود أجواء من التفاؤل النسبي المشوب بالحذر والارتياب المتابعين للمأساة المتواصلة في قطاع غزة لأكثر من عشرين شهرا، وهم يتلقفون مبادرة أمريكية ستتولى كل من مصر وقطر العمل على متابعتها مع حركة حماس، للوصول إلى هدنة تتواصل ستين يوما، يمكن أن تؤول إلى إنهاء حالة الحرب التي تحولت إلى عدوان إسرائيلي غاشم ومفتوح، انتقل من هدفه المعلن بالقضاء على المقاومة الفلسطينية إلى التطهير العرقي المنهجي، ويبدو أن المهمة صعبة للغاية، حيث توالت المقترحات التي تدور حول المشهد الختامي للحرب، بين ما تريده إسرائيل من انتصار يتم تسويقه للداخل، ويسهم في إنقاذ نتنياهو من خلال استمراره رئيسا للحكومة في إسرائيل، وما تتطلع له حركة حماس من المحافظة على صورة المقاومة وإبقائها ضمن الحلول المتاحة للفلسطينيين.

في شبه المؤكد، فلسطينيا وعربيا، أن تقديرا خاطئا ترافق مع عملية السابع من أكتوبر الطموحة، وأن النجاح الميداني للضربة المباغتة التي وجهتها الحركة لإسرائيل والخسائر البشرية التي لحقت بها، وعدد الأسرى الكبير الذي أدى إلى أزمة، أصبح مع الوقت عبئا على الحركة، ولم يمكنها من الدخول في مواجهة محسوبة، إلا أن العملية أدت إلى إعادة الفلسطينيين إلى المشهد من جديد، بحيث لم يصبحوا الطرف الذي عليه أن يتحمل جميع أثمان التسوية، التي كانت تمضي قدما بعد اتفاقات إبراهام، والطموح الإسرائيلي بتحييد إيران ومشروعها النووي، ولكنهم تحولوا إلى طرف يمتلك بعضا من الندية السياسية، ويهتم العالم بأن يترقب رأيه وردة فعله، كما تشكل على إثر أحداث السابع من أكتوبر جيل جديد من المبكر الحكم على توجهاته المستقبلية، خاصة أن إسرائيل استهلكت سردية مظلوميتها، من خلال المشاهد المفجعة التي صدرتها بنهم ووقاحة للعالم على امتداد الأشهر الماضية.

عاجلا أم آجلا ستنتهي الحرب، من خلال هذه المبادرة أو مبادرة أخرى، وسيسعى الرئيس الأمريكي إلى تطبيق بعض من تصوراته تجاه غزة، ويجب أن نتناسى حديثه عن ريفيرا شرق المتوسط وما إلى ذلك، لأنه يمثل السقف المرتفع للغاية، وعملية التسويق الكبرى، أما في داخله فهو استثمار الواجهة البحرية للقطاع، لتكون جزءا من المشروع الأوسع، الذي يبدأ من الهند ويصب في أوروبا، ويفرض ذلك وجود شكل من السلطة التي يمكن أن تضمن الاستقرار في القطاع، وولادة هذه السلطة سيشكل مفهوما جديدا ومقاربة مختلفة، فالسلطة التي ستولد في غزة لن تكون تفرعا من سلطة رام الله، التي يقودها الرئيس محمود عباس، بل ستكون النموذج الذي يمكن سحبه على نمط إدارة جديد لتجمعات سكانية فلسطينية، يمكن لإسرائيل أن تراها مفيدة لحاجاتها الاقتصادية وتشغيل نموذجها المعيشي. اللافتة الكبيرة التي سترفعها إسرائيل هي التهديد الذي يشكله الوجود الفلسطيني بشكله الحالي، وببنيته العقائدية، وتأثيره على الأمن الإسرائيلي، أو أمن المواطنين الإسرائيليين، وبذلك سيظهر لدى إسرائيل مفهوم جديد يمكن وصفه بالفلسطيني المفيد، الذي يمكن أن يرتضي العمل بأجور مقبولة، ويكون متوفرا لأداء بعض الوظائف التي يحتاجها الاقتصاد الإسرائيلي، وفي المقابل، التخلص من الفلسطيني صاحب نزعة المقاومة، من خلال تخفيض سقف الممكن بالنسبة للفلسطينيين، بحيث لا يصبح التحرير هدفا مطروحا، لتحل لقمة العيش مكان الوطن، وتتقدم السلامة الجسدية شاغلا رئيسيا لا الكرامة ولا الحرية، وهذه العملية ستتطلب هندسة طويلة ومعقدة، تبدأ بالعمل على تهجير ناعم سيجده كثيرون ممن يمتلكون المؤهلات المناسبة طريقا مفتوحا أمامهم، ليتبقى الفلسطينيون الذين يشكلون قوام العمالة اليومية التي تحتاجها إسرائيل وتعرف كيف تسيطر عليها.

تخفيض العبء السكاني وتقطيع أوصال المناطق الفلسطينية سيسهل على إسرائيل تطبيق نظريتها الأمنية، وسترفع وبشكل دائم قميص السابع من أكتوبر في وجه الجميع، وستعمل إسرائيل على تطبيق نسختها الخاصة من العالم الكابوسي (الديستوبي) في فلسطين، وهو ما قدمت ملامح منه في غزة المدمرة وأهلها الهائمين بحثا عن طابور طويل للمساعدات يمدون فيه أطباقهم الصغيرة للحصول على بعض الطعام الذي يشكل حلما لكثير من أهالي القطاع، الذين خسروا بالفعل كثيرا من أطفالهم بسبب الجوع والبرد، بجانب القصف الذي لم يستثنِ حتى الخيام الجرداء التي كان يمكن لبعض الضوء الساطع أن يكشف دواخلها ويبين مدى سيادة شهوة القتل لمجرد القتل لدى إسرائيل. المسعى الإسرائيلي لا يتناقض مع بنى أخلاقية سائدة في العقيدة المسيطرة على اليمين الإسرائيلي، الذي يرى في الفلسطينيين حمولة بشرية من الأغيار، الذين يقلون من حيث المبدأ ومن اللحظة الأولى لوجودهم عن اليهودي، الذي يفرض منطقه ومتطلباته على مشروع دولة إسرائيل، التي كانت حرب أكتوبر آخر مسمار في نعش صورتها العلمانية والديمقراطية، لتظهر مدى توحشها الداخلي وعنصريتها الممتدة والتمييز الكبير والعميق القائم حتى بين مواطنيها أنفسهم، والتخوف الأساسي هو قدرة إسرائيل على التسلل من خلال المفاهيم وفرض الأمر الواقع، بتبلدها أمام أي نقد أو خطاب ذي طبيعة إنسانية. وراء بعض الإجراءات الشكلية التي ستعطي الرئيس الأمريكي صورة لوهمه في تحقيق السلام، وفقا لنسخته الخاصة، وطبيعة أفكاره، ستقوم إسرائيل بابتكار عالم من السيطرة والتوجيه تسعى فيه لمزيد من نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، وتؤسس مجتمعا من الطوابير التي يسهل مراقبتها وتصفيتها وقت الحاجة، طوابير تنتظر العمل أو الطعام أو مجرد الانتقال من مكان إلى آخر، وسيكون الفلسطيني المرهق والمتعب بشكل مستمر هو الغاية والنموذج لمن سيتبقى من الفلسطينيين بعد عملية من التفريغ الناعم.

يشكل إنهاء الحرب مسؤولية أخلاقية، فكل ساعة تكلف الفلسطينيين خسائر بشرية كبيرة، وتجردهم من شعورهم بالحدود الدنيا من الاستحقاق الإنساني، ولكن يجب أن لا يتغيب في المرحلة التي ستتبع انتهاء العمليات العسكرية، ضرورة البحث عن وجود إنساني للفلسطينيين، يفوّت على إسرائيل مخططاتها التي بدأت تظهر مع نشر الخرائط الأرخبيلية لصفقة القرن، وهو ما تنفذه إسرائيل حاليا في الضفة الغربية، من خلال الوجود العسكري والحواجز ومحاصرة المدن والقرى وإحاطتها بأبواب حديدية، يمكن أن تتحول إلى نقاط وحيدة للدخول والخروج، مع تحديد أوقاته بما يليق بعملية (أسر بابلي) حديث يكون ضحيته هذه المرة الفلسطينيون، كما كانوا في الأشهر الماضية ضحايا لمحرقة نهمة تمارسها إسرائيل.

وقف الموت هدف مهم وعاجل، ويبدو أنه يقترب مع الوقت، ولكنه لا يقدم الضمانة الكافية لتأسيس الحياة في فلسطين، والانتقال من العيش تحت التهديد الدائم والعنف المستمر إلى حدود العيش الإنساني، الذي يمكن أن يؤسس مجتمعا صحيا قائما مثل غيره على أولوية الإنسان وحقوقه، وهذه المهمة التي يجب أن تبقى حاضرة في سباق مع إسرائيل، على صياغة المنطقة ومستقبلها، لأن فلسطين يمكن أنها تشكل المختبر الأولي لنزوات السيطرة والهيمنة الإسرائيلية، التي تختلط فيها التكنولوجيا وأشباح السايبربانك، مع الرؤى التوراتية الحافلة بالموت والنار والدماء.

مقالات ذات صلة