هذا السجال الألماني عن قطر

حسان الأسود

حرير- مرّت يوم 31/10/2022 الذكرى الخامسة بعد الخمسمئة على إطلاق مارتن لوثر إصلاحه البروتستانتي في مواجهة الفاتيكان وسلطة البابا والكنيسة الكاثوليكية، فاحتجاجاً على قدوم ممثل البابا لبيع صكوك الغفران، كتب لوثر رسالةً وجّهها إلى أسقف ماينز وأرفقها بلائحة أطروحاته الخمس والتسعين، التي باتت تُعرفُ لاحقاً بالنصوص المؤسّسة للإصلاح وللقطيعة مع الكنيسة الكاثوليكية. انطلق مارتن من قناعته أنّ الإيمان وحده كافٍ للحصول على الغفران، وأنّ الله يمنح عباده العفو والرحمة من دون حاجة لأن يقدّموا للكنيسة أموالهم ليشتروا بذلك مرضاته. سبّب هذا الأمر، مع غيره من عوامل، ما بات معلوماً من انقسام الكنيسة الكاثوليكية، وما تبع ذلك من حروبٍ دينيةٍ مذهبية عمّت أوروبا عشرات السنين وراح ضحيتها مئات آلاف البشر.

تحتفل ألمانيا، باعتبارها موطن مارتن لوثر، بذكرى الإصلاح الذي قام على جوهر التسامح وقبول الآخر المختلف، لكنّ هذه المبادئ تقف عند حدّ واحدٍ في الاستخدام السياسي، فيحاول بعض الساسة الألمان استخدام قضايا جدلية غير مجمعٍ عليها عند جميع المجتمعات، لإثارة انتقاداتٍ إنسانية في الظاهر سياسية في الجوهر، للضغط على دول الخليج العربي التي لم تأخذ وجهة النظر الغربية على إطلاقها في حرب الطاقة الدائرة مع روسيا. يستخدم بعضُ السياسيين الأوروبيين، والألمان من بينهم، قضايا حقوق الإنسان لتحقيق أغراضٍ سياسية واقتصادية، فما معنى أن يصمت هؤلاء عن ارتكاب روسيا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان قبل الدورة الماضية لكأس العالم، بينما يتشدقون بها الآن بمناسبة استضافة قطر هذه البطولة!

“دعونا نرى ما إذا كنّا قساة على بلد مسيحي كما نحن مع بلد مسلم، إنّي أشعر بالفضول لمعرفة ما سيُقالُ عن كأس العالم لكرة القدم في المكسيك عام 2026، هناك حيث يتمّ الكشف عن قتل ألف امرأة سنوياً، ومن لا يعلن عن قتلهنّ أكثر بكثير!” بهذه الكلمات غرّد وزير الخارجية الألماني الأسبق، زيغمار غابرييل، محتجّاً على الغطرسة الألمانية والاستعلاء على قطر، منتقداً تصريحات وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، وموقفها المتحفظ على منح حق استضافة “دولٍ كهذه” هذه البطولة، في الوقت التي تشيد فيه الأمم المتحدة والاتحاد الدولي لكرة القدم بالخطوات القطرية الجبّارة في هذا المجال. وهنا يحقّ لنا التساؤل، هل تجرؤ الوزيرة نانسي على انتقاد انتهاكات الجيش والشرطة الإسرائيلية بحقّ النساء الفلسطينيات مثلاً، أم لا يدخل هذا الأمر ضمن حقوق الإنسان؟ أليست القيود المفروضة على العمّال الفلسطينيين بالتنقل والعمل في بلادهم أشدّ ألف مرّة مما يعانيه العمّال الوافدون في قطر من ظروفٍ مناخية صعبة؟ تبدو هذه السياسة الألمانية عمياء صمّاء خرساء عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، لكنّ حواسها كلها تتفتح عندما يتعلق الأمر ببلد عربي إسلامي!

وبالعودة إلى ذكرى الإصلاح البروتستانتي، ألم يكتب مارتن لوثر بذاته أنّ اليهود غير مؤمنين، لأنّهم لم يعترفوا بيسوع على أنّه “المسيا – الماشوح – المسيح المخلص”، ألم ينفِ عنهم تبعاً لذلك صفة “شعب الله المختار”؟ لقد كان يعبّر عن الفضاء الثقافي المسيحي الغربي كلّه تجاه اليهود، وهذا هو ذاته الذي استخدمه النازيون في تبريرهم الحملات العنصرية على اليهود، ومن ثمّ ما أنزلوه بهم في المحرقة. هذا التسامح والإصلاح القائم على نظرة أحادية الجانب للحق والعدل والصواب، الذي فتح تاريخاً جديداً لأوروبا والغرب المسيحي عموماً، والذي كان، في الوقت نفسه، يحمل أسباب إقصاء اليهود باعتبارهم آخر منبوذٍ رغم عيشهم في أوروبا منذ مئات السنين، يُستعاد الآن بمواجهة العرب والمسلمين. أي يتمّ استحضار آليات التفكير الإقصائية التمييزية ذاتها التي أدّت إلى الحروب والمحارق البشرية، والتي أنتجت، في النهاية، كياناً غاصباً في فلسطين، وأحلت شعباً منبوذاً من الغرب مكان شعبٍ آخر موجود في أرضه منذ آلاف السنين، للخلاص من المشكلة اليهودية، التي هي مشكلة أوروبية مسيحية، وليست عربية إسلامية.

استحضار آليات التفكير والتعامل ذاتها ليس مقتصراً على العلاقات الخارجية مع الدول الأفريقية والعربية والإسلامية فقط، بل نلحظُ ازدياد وتيرته داخل أوروبا مع صعود أسهم اليمين واليمين المتطرّف، وهذا ما يسبّب، بشكل أو بآخر، هلعاً لدى الأقليات المهاجرة والفئات المهمّشة من الشعوب الأخرى المقيمة في هذه البلاد، خصوصا القادمة من أفريقيا وآسيا، فالتضييق على المسلمات في ارتداء أزيائهنّ مثلاً لن يقف هنا، بل مع مرور الوقت قد يصل إلى حدّ يطاول فيه كلّ مختلفٍ عمّا هو أوروبي مسيحي خالص في لون بشرته وعاداته وتقاليده ومعتقده! مع ذلك، ومن حسن حظّ الألمان والأوروبيين عموماً، ومن حسن حظ العرب والمسلمين والأفارقة والآسيويين المقيمين في أوروبا، أنهم ينعمون برغد العيش في ظل الديمقراطية ويتمتعون بثمار الليبرالية، وإلا لما استطاع وزيرٌ سابقٌ مثل زيغمار أن ينتقد وزيرة حالية مثل نانسي ومن خلفها أن يوجّه النقد للعقليّة الألمانية برمتها. هذا التجاذب والتنافر هو ما يصنع الحياة السياسية هنا، وهو الذي يُتيح للأصوات المختلفة والمخالفة الظهور. وفي ذكرى الإصلاح البروتستانتي، هل يُصلح بعضُ الألمان والأوروبيين نظرتهم إلى العرب والمسلمين، أم ستبقى عقدة التفوّق الغربية مسيطرة عليهم رغم بدء أفول نجمها؟ هذا ما ستبديه لنا الأيام.

مقالات ذات صلة