دعوة إلى تأسيس منظمة عربية للطاقة قاطرةً للتكامل

حسن نافعة

حرير- تنعقد القمة العربية بعد أيام، لكن لا أحد يتوقع أن تسفر عن نقلة نوعية تستطيع انتشال العالم العربي من هوّة سحيقة سقط فيها بسبب السياسات الخاطئة التي انتهجها عديدون من قادته خلال العقود الماضية. صحيحٌ أن الجزائر بذلت جهداً مضنياً في التحضير لهذه القمة، ونجحت، إلى حد كبير، في تذليل عقباتٍ أخّرت انعقادها، لكن الأوضاع العربية وصلت إلى درجةٍ كبيرةٍ من التردّي والتعقيد، وأصبح مجرّد النجاح في عقد أي مؤتمر على مستوى القمة يعدّ إنجازاً في حد ذاته. ولأنه لن يكون بمقدور النظام العربي مواصلة السير على النهج نفسه الذي ثبت فشله، وإلا أصبح مستقبل الأمة العربية كلها في مهبّ الريح، أظنّ أنه آن الأوان لفتح باب الاجتهاد أمام أفكارٍ من خارج الصندوق، لعلها تسهم في تحريك المياه العربية الراكدة، وتفلح في تقديم جديدٍ يمكن لقادة العرب استلهامه لبناء مشروعٍ قادر على انتشال الشعوب العربية مما هي فيه، والعثور على البوصلة التي تحتاجها سفينتهم، كي لا تظلّ تائهة تتقاذفها الأمواج من كل جانب، وتدفع بها نحو مصير مجهول.

فبعد مرحلة طويلة من النضال من أجل الحصول على استقلاله السياسي، شهد العالم العربي محاولة للنهوض، تمحورت حول مشروع لإقامة وحدة سياسية فورية، تتجاوز واقع التجزئة المرير، غير أنه سرعان ما تبيّن أنه كان مشروعاً طموحاً بأكثر مما يحتمله واقعٌ معقدٌ ومليء بمختلف أنواع التناقضات. وبدلاً من البحث عن مشروع بديل أكثر واقعيةً وقدرةً على مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية، راحت كل دولة عربية تبحث لنفسها عن مشروعٍ للخلاص الفردي، ودخل النظام العربي في مرحلة تخبّط قادته إلى الوضع المأساوي الذي تعيشه الشعوب العربية حالياً.

لذا يبدو العالم العربي اليوم في أمسّ الحاجة إلى مشروع نهضوي جديد، يحافظ فيه على هدف الوحدة، لأنه لن يستطيع أن ينهض إلا على هديٍ من بوصلتها، ولكن يغير من أساليبه في الوصول إليها، وذلك باعتماد نهج مختلف، يمكن أن يسترشد فيه بالدروس المستفادة من تجربة التكامل الأوروبي الناجحة، وهي تجربة تتمتع بسمات خاصة، يمكن تلخيصها على النحو التالي:

أولاً، سمة التدرّج: فقد أثبتت التجربة الأوربية أن بناء التكامل بين الدول على أسس متينة ينبغي أن تجري من أسفل إلى أعلى، وفق عملية مرحلية، تبدأ بتحقيق التكامل في قطاع إنتاجي أو خدمي محدّد، يفضّل أن يكون أحد القطاعات الرئيسية في اقتصاديات الدول المشاركة، ثم يجري التوسّع في العملية التكاملية، بضم تدريجي لقطاعات أخرى، وفق منهج وسرعات منضبطة ومدروسة، إلى أن تكتمل المسيرة وتحقق أهدافها وغاياتها النهائية. ومعروف أن التجربة الأوروبية بدأت بمحاولة تحقيق التكامل في قطاع الفحم والصلب أولاً، وذلك لأسبابٍ أمنيةٍ واقتصادية في الوقت نفسه، ثم توسّعت لتشمل قطاعي التجارة والاقتصاد، إلى أن تمكّنت من إقامة منطقة جمركية موحّدة، ثم سوق مشتركة، ثم سوق موحدة، وحين وصل الاقتصاد الأوربي إلى درجةٍ من التداخل والتشابك، بدأ التفكير في صكّ عملة أوروبية موحدة، ليصبح الطريق ممهداً للتطلع نحو الوحدة السياسية، فالمسار المتدرّج يشكّل، بهذا المعنى، شبكة أمانٍ تساعد على تجنيب العملية التكاملية مخاطر الانزلاق نحو قفزاتٍ سريعة مفاجئة، عادة ما تنتهي بالفشل والانهيار، ويتيح أمام الدول المشاركة إمكانية ضبط إيقاع العملية التكاملية، والتحكّم في سرعتها ومسارها بالقدر الذي تحتمله أوضاعها الداخلية، وما قد تنطوي عليه من تقلباتٍ محتملة في أمزجة الرأي العام. وهذا لا يعني أن نجاح التجربة التكاملية في العالم العربي بات مشروطاً بالسير على الدرب نفسه. وإنما يعني أن التدرّج في العملية التكاملية أفضل من سياسة حرق المراحل، ويفرض على العالم العربي عند إطلاق عملية تكاملية جديدة أن يبدأها باختيار قطاعٍ يتناسب مع ظروفه وأوضاعه السياسية والأمنية الخاصة، شريطة أن يكون قطاعاً قوياً ومؤثراً بقوة في اقتصاديات الدول المشاركة في هذه العملية. وبتطبيق هذا البعد على الحالة العربية. يمكن القول إن أي تجربة عربية تكاملية ناجحة قادرة على التحول إلى قاطرة لقيادة مسيرة الوحدة في العالم العربية يمكن أن تبدأ، على سبيل المثال، بمحاولة التكامل في قطاع الطاقة.

ثانياً، حسن اختيار المجموعة “النواة”: أثبتت التجربة الأوربية أنه ليس من الضروري أن تبدأ العملية التكاملية بمشاركة جميع الدول التي ترتبط فيما بينها بروابط خاصة تميّزها عن غيرها من المجموعات الإقليمية، حيث بدأت بمجموعة صغيرة من ست دول، ثم توسّعت تدريجياً حين اشتدّ عودها، وأصبحت قادرةً على أن تشكّل منطقة جذب، والتحول إلى قاطرة قادرة على قيادة المسيرة وتوسيع نطاقها أفقياً ورأسياً في مراحل لاحقة. ويلاحظ هنا أن مشاركة الدول الأوروبية الكبرى، وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، في هذه المجموعة النواة، بالإضافة إلى ثلاث دول أخرى أصغر (هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ)، كان حاسماً لضمان نجاح تجربة التكامل الأوروبي برمتها. وإذا طبقنا هذا البعد على الحالة العربية، وبافتراض أن أي عملية تكاملية جديدة في العالم العربي يجب أن تبدأ “بمجموعة نواة” من الدول المنتجة والمصدّرة للنفط والغاز. أتصوّر أن هذه المجموعة النواة يجب أن تضم أربع دول عربية كبرى على الأقل، هي مصر والسعودية والعراق والجزائر، بالإضافة إلى بقية دول الخليج المنتجة للنفط أو الغاز.

ثالثاً، المرونة وتعدّد السرعات: فقد أثبتت التجربة الأوروبية أنه ليس من الضروري أن تسير العملية التكاملية بالسرعة نفسها على مختلف الأصعدة، وتمكّنت بالفعل من السير بمعدّلات سرعة مختلفة، من دون المساس بوتيرة التكامل في القطاعات الرئيسية المحدّدة للأرضية المشتركة لجوهر العملية التكاملية. وبهذه الطريقة، جرى استثناء دول معينة من الانخراط الفوري في عملية تكاملية تخصّ قطاعات أو مجالات بعينها، يعتقد أنها تحتاج وقتاً أطول، قبل أن تصبح جاهزة للانخراط فيها. وعلى سبيل المثال فليست كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أعضاء في “منطقة اليورو” أو في منطقة شينغن، فما تزال لبعضها عملتها الوطنية الخاصة، ولا يسمح لحاملي “فيزا شنغن” بعبور أراضي كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

رابعاً، المواءمة بين مبدأي المساواة والفاعلية، فقد نجحت تجربة التكامل الأوروبي في التوفيق بين مبدأين متعارضين في التنظيم الدولي: المساواة السيادية بين الدول، والحاجة إلى مؤسسات تكاملية فاعلة. يقضي الأول بأن تكون للدول الأعضاء، وهي بطبيعتها متفاوتة الأحجام والقدرات، أوزان تصويتية متساوية وفقاً لقاعدة صوت واحد لكل دولة. ويقضي الثاني بأن يكون لكل دولة وزن تصويتي يتناسب مع حجمها وقدراتها الفعلية. وبناء عليه، جرى التمييز في تجربة التكامل الأوروبي بين القضايا التي ترى الدول الأعضاء أنها تمسّ أمنها القومي، حيث جرى الاتفاق على أن تتخذ فيها القرارات بإجماع الأصوات، والقضايا الأخرى الداخلة في صلب العملية التكاملية، حيث تم الاتفاق على أن تتخذ القرارات فيها بأغلبية خاصّة، وبأن يكون لكل دولة وزن تصويتي مختلف يتناسب مع حجمها وقوتها. وبهذه الطريقة، استطاعت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المحافظة على سيادتها مع ضمان سير العملية التكاملية بالسرعة والإيقاع المناسبيْن في الوقت نفسه.

وفي تقديري، يمكن أن تفيد هذه الدروس الأربعة، المستخلصة من دراسة التجربة الأوروبية الناجحة في التكامل، في التغلب على مسبّبات الفشل في التجربة العربية، وتساعد على إعادة إطلاق تجربة تكاملية تتوفر لها مقوّمات النجاح. فمن الناحية النظرية البحتة، يمكن تصوّر إمكانية انطلاق تجربة تكاملية عربية ناجحة، تحاكي النمط الأوروبي، من حيث الركائز والمقومات العامة الأساسية، وتتجنّب النقل الحرفي في الوقت نفسه. وعلى سبيل المثال، يمكن لتجربة عربية تكاملية جديدة قابلة للنجاح أن تنطلق، إذا توافقت مجموعة من الدول العربية المنتجة والمصدّرة للنفط والغاز، ولتكن دول مجلس التعاون الخليجي الست، بالإضافة إلى مصر والجزائر والعراق، على وضع قطاع النفط والغاز تحت إدارة سلطة عربية عليا مشتركة، من خلال تأسيس “مجموعة عربية للنفط والغاز”، على نمط “المجموعة الأوروبية للفحم والصلب في التجربة الأوربية”. إذ يمكن لهذه “السلطة”، في حال قيامها، أن تحوّل العالم العربي ليس إلى لاعب رئيسي في السوق العالمي للنفط والغاز فحسب، وإنما أيضاً أن تحوّل الجماعة العربية للنفط والغاز إلى قاطرة تقود مشروعات البنية الأساسية المشتركة اللازمة لتحقيق التكامل العربي في مختلف المجالات، مثل مشروعات الربط الكهربائي، والموانئ والمطارات والطرق .. إلخ.

غير أن نجاح أي مجموعة عربية تكاملية من هذا النوع يتوقف على مدى توفر شرطين رئيسيين: الأول: تزويد المؤسسات التكاملية بكل الصلاحيات والاختصاصات التي تمكّنها من أداء وظائفها من دون عوائق، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بتنازل الدول الراغبة في المشاركة فيها عن جانب مهم من سيادتها لصالح “السلطة العليا المشتركة”، وذلك في كل القرارات المتعلقة باستخراج النفط والغاز وتسويقهما. الثاني: اتخاذ القرارات في هذه المؤسسات بطريقةٍ توائم بين الحرص على سيادة الدول الأعضاء، من ناحية، وضمان فاعلية العملية التكاملية، من ناحية أخرى، وهو ما يتطلب القبول بفكرة الأوزان النسبية عند التصويت، استناداً إلى معايير محدّدة يمكن الاتفاق عليها، مثل: تعداد السكان، حجم الناتج القومي، قيمة ما تنتجه وتصدّره من النفط والغاز .. إلخ. .. فهل يستطيع العالم العربي أن يصبح يوماً ما مؤهلاً للدخول في تجربة تكاملية من هذا النوع، وهي تجربةٌ من المؤكّد أنها ستحقق فائدة لكل الدول المشاركة فيها، وستساعد، في الوقت نفسه، على حماية الوطن العربي ككل من الأخطار المُحدقة به داخلياً وخارجياً.

مقالات ذات صلة