الإسلاميون وخرائط الإصلاح

سيف الدين عبد الفتاح

حرير- في ملاحظة أولية من استعراض الكتابات التي اهتمت بشأن خرائط الإصلاح، تناول الكتّاب والمفكرون من التيارات القومية أو الليبرالية أو المستشرقين الاتجاهات الفكرية والإصلاحية في الفكر العربي. وقد كتب هؤلاء عن كل الاتجاهات، بما فيها الإسلامي وغير الإسلامي، وتناولوا كل اتجاهات التأسيس. واستكمالا واستدراكا على تلك الملاحظة الجوهرية، وضمن محاولة كاتب هذه المقالة استعراض فئة مكملة لرصد تلك الخرائط الإصلاحية المعرفية والفكرية، فإن من يصنّفون مفكرين إسلاميين كتبوا عن الخرائط الإسلامية، وتوقفوا عندها فقط في الغالب، ولم ينشغلوا بأي اتجاهاتٍ أخرى، إلا في مقام النقد الشكلي والمباشر لتلك التوجّهات الأخرى التي أفردوا نقدهم لها في كتاباتٍ خاصّة من زاوية نظرهم في التركيز على قضية بعينها، مثل التوجهات العلمانية والديمقراطية والقومية، وهو أمرٌ أدّى بنا إلى صياغة تساؤل مشروع بصيغة محدّدة، كيف يمكن تفسير إغفال المفكرين الإسلاميين (أصحاب التوجّه الإسلامي) رصدهم خرائط الإصلاح العربية والإسلامية للتيارات الفكرية الأخرى غير الإسلامية، والاقتصار على التيارات الإسلامية فقط في هذا المقام. يصلح هذا السؤال المركزي أن يكون محلا لبحثٍ مطوّل وربما أطروحة جامعية. وفي سياق هذه الملاحظة، عرضت ذلك التساؤل على أطرافٍ فكرية وبحثية مختلفة، بحثا عن المبرّرات لذلك والمفسّرات لهذا الموقف الغالب. وفي هذا الإطار، نحاول أن نقدّم بعض الإجابات والتفسيرات لهذا السؤال.

أول هذه التفسيرات يمكن أن نلتمسها من أستاذنا حامد ربيع في رفضه مقابلة الإسلام بالقومية، واستخدامه مفردة العروبة والإسلام، وليس القومية والإسلامية، مؤكّدا أن في مفهوم القومية من المناطق التي يمكن التحفظ عليها، أي القومية كمذهبية وما يسكنها من فيروساتٍ فكرية وثقافية ومجتمعية، وقد أراد أيضا أن يُخرِج الموضوع من التضاد والتنازع إلى إطارٍ أرحب، ينظر إلى القوم والقومية العربية من منظور فكرة العروبة، وأنها ثقافة وليست أبا أو أما لتيار من التيارات تستند إلى فكرة العنصر أو الجنس العربي، وقد أورد ذلك في أحد هوامش سلوك المالك في تدبير الممالك، قائلا: “العلاقة بين الإسلام والعروبة علاقة مركبة، فكما أن الإسلام لا يمكن تصوّره دون الأصل العربي، حيث إن الاسلام هو دعوة عقائدية تقوم على مبدأ مفهوم الإقناع من خلال الاتصال، وثيقته القرآن الذي دوّن باللغة العربية، ولا يجوز لنا أن نفهم أن اللغة في العمليـة الاتصالية هي مجرّد رمز أو تعبيرات لفظية؛ إنهـا مفاهيم وأدب للتعامل ومنطق لتطويع الإرادة المعنوية. كذلك فإن العروبة أحد عناصرها الإسلام، إن المجتمع العربي قد يضم ويحتضن أقليات غير مسلمة، ولكنه يجب أن ينظر إليه أنه بما في ذلك تلك الأقليات غير المسلمة ليس إلا بلورة تاريخية لمجموعة من القيم من تكاملها خلال الأجيال المتعاقبة والتراكمات المختلفة تكون ما نستطيع أن نسمّيه بالحضارة الإسلامية. إذا أردنا أن نعبر عن هذه العلاقة الدفينة بين الإسلام والعروبة لاستطعنا أن نتصوّر دوائر ثلاثا كل منها مستقلة عن الأخرى، رغم تقاطعها مع تلك الدوائر الأخرى: العروبة، الإسلام، الحضارة الإسلامية”.

تفسير ثان: قراءة بعض الإسلاميين الذين تشدّدوا تجاه الاتجاهات الفكرية لجهود التيارات الأخرى من زاوية أن هذه الجهود ليست إصلاحية بالأساس، وإنما تتبنى رؤى فكرية ومعرفية غربية، وربما تشكل عند بعضهم أبعد من ذلك، كرأس حربة للقوى الغربية والدول الخارجية، وأنها قد تكون وفق مرجعيتها الغربية مناقضةً للدين مهمّشة لأثره، وقد تشكّل دورا ينتقص من حقيقة العروبة وجوهرها، وتسعى إلى تفتيت الأمة، وتعمل مناقضة لعضويتها ومقاصدها.

تفسير ثالث: يرى أن كل اتجاه استبعد الآخر بطريقته، فتبنّي الدولة في العالم العربي والإسلامي التيارات الإصلاحية الأخرى من دون الإسلامية فرض على التيار الإسلامي أن يهتمّ بجهوده فقط ليضع نفسه على خريطة الإصلاح، لأن الطرف الآخر (من وجهة نظرهم) موجود بطبيعة الحال، وممثل سياسيا على أعلى مستوى، ومن ثم يعتبر التيار الإسلامي أن الإصرار على ذكر التيارات الإسلامية في خريطة الإصلاح نوع من إثبات الوجود في مواجهة الوجود الواقعي للتيارات الأخرى في النظم السياسية الحاكمة، ومن ثم نجد أن ما يسيطر على رصد خريطة الإصلاح الاستبعاد والاستبعاد المضاد، وإن اختلفت الطرائق والميكانيزمات، فالتيار الإسلامي يمتلك الجانب الفكري، والتيارات الأخرى استطاعت أن تجد لنفسها تمثيلا على مستوى النظم والعمل ضمن ساحاتها.

تفسير رابع: فرضت المشروعات الإسلامية نفسها على الساحة الحضارية، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يتحدّث عن مشروعات إصلاحية، من دون ذكر الجانب الإسلامي، خصوصا لارتباطها بدين، وليس بنظام سياسي أو فكر بشر، كما أن هناك حالة من التراكم والاستمرارية في المشروع الإسلامي بخلاف المشاريع الأخرى. لهذا السياق ضرورته، خصوصا أن الحضور الإسلامي لم يكن باهتا، بل كان متغلغلا في المجتمعات على كل المستويات، وقد بدأت مشروعات الإصلاح واستمرت أكثر من مائة عام في وجود الخلافة الإسلامية التي انتهت عام 1924. ومن ثم، الحديث عن استبعاد الدين غير منطقي، إلا أن استبعاد المشاريع الإصلاحية الإسلامية واتهامها بالتلفيق أو الحيلولة دون وصولها إلى السلطة، أو العمل على إفشالها في حال وصولها هي الإستراتيجية المتبعة تجاهها، في المقابل المشروع الإسلامي ينشط من خلال طرائقه الخاصة في الاستبعاد إذ لا يرى أن هناك مشروعا للإصلاح غير المشروع الإسلامي، خصوصا أن هذا المشروع ممتدٌّ قابل للتجديد، وهو ملك للأمة، وهو قابل للتصويب والتطوير على الدوام هذا وفق رؤية بعض منهم، فالنموذج الإسلامي لا يستنفد في التطبيق، بل هو يرتقي ويتجدّد مع الحفاظ على أصوله الفكرية، وربما لا تمتلك المشاريع الأخرى درجة الثبات نفسها، وغالبا ما تتغيّر وتتبدّل هذه الرؤية يعتنقها بعض الإسلاميين، كما أن النماذج الغربية، والتي تؤثر تأثيرا كبيرا على تلك الاتجاهات الأخرى غير الإسلامية، تتعامل مع مسألة تطوّر الفكر بصورة لا يعرفها الفكر الإسلامي؛ نجد أن الفكر الغربي يسارع إلى تقديم أطروحات متجاوزة، مثل: (new) نيو، وما بعد (post)، وما بعد ما بعد (post post)، أو موت (الإله/ الانسان/ الأيديولوجية) death فالفكر الغربي يؤمن بالتجاوز، وليس التطوير، فالأفكار غير قابلة للتطوير المستمر، ومصير أي فكرة في المنظور الحضاري الغربي إلى نيو، أو موت، أو ما بعد، في حين أن المشروع الإسلامي يهتم بتطوير المشروع وتصويبه، وإن لذلك جانبا سلبيا في مسألة تبرير الفشل.

تفسير خامس: يتعلق بالإسلاميين أنفسهم، خصوصا في ظل تنامي عقلية الاستبعاد. ويرجع ذلك إلى مناهج التلقي التي شكلت عقولهم منذ البداية، فالشباب يتعلم داخل التيارات والتنظيمات الإسلامية الانغلاق والاكتفاء والاستغناء بتياره وتنظيمه، وكأنه الوحيد الذي يملك الرؤية الصحيحة للعالم. وبشكل عام، التيارات الإسلامية أقرب إلى دائرة الاستبعاد عن التيارات الأخرى، وقد تطول دائرة الاستبعادات من هم من داخل التيار، فما بال من هم من الخارج.

غاية الأمر في محاولتنا رصد التفسيرات حول هذا الموقف ومحاولة الإجابة عن السؤال المطروح آنفا توضح كيف أن الإسلاميين ورؤيتهم السلبية إلى غيرهم قد تأثرت كثيرا بهذه الرؤية المسبقة، وتركت مآلاتها على اختيارهم هذا في رؤيتهم الاستبعادية تلك، واقتصارهم على تنوعات الرؤية الإسلامية في المجالات والخرائط الإصلاحية.

مقالات ذات صلة