الحماية الحقيقية للعرب والفلسطينيين

حلمي الأسمر

حرير- لا ينفكّ الخطاب الرسمي الفلسطيني يطالب بحماية دولية للشعب الفلسطيني، كلما ارتكب الاحتلال الصهيوني المجرم إحدى فظائعه الكثيرة والمتنوّعة ضد أبناء هذا الشعب. وبالطبع، عادة ما تذهب هذه الدعوة أدراج الرياح، ولا يكاد يلتفت إليها أحد في كل الجهات الدولية التي تتطلع إليها سلطة رام الله طلبا للحماية، إن كانت المطالبة أصلا تحمل ولو ذرّة من الجدّية، ذلك أن من يتوجّهون إليهم بهذا الطلب هم أنفسهم من يوفرون الحماية الحقيقية للاحتلال، ويحيطون جرائمه بستارٍ سميكٍ من “الشرعية” في المحافل الدولية المؤثرة، كمجلس الأمن والأمم المتحدة، فهؤلاء الحُماة يقفون بالمرصاد لكل قرار يحاول أن يدين ولو برقّةٍ شديدةٍ أفاعيل الاحتلال وجرائمه، علما أن في وسع مجلس الأمن تحديدا أن يوقف منذ الغد كل أو جل جرائم الاحتلال، فقط باللجوء إلى الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة، وهو عما تتّخذه المنظمة الأممية من أعمال، حال تهديد السلم والإخلال به ووقوع عدوان على المدنيين في أي دولة. ويفصل البند السابع بالتدابير المتخذة في حال تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان، بينما يختصّ الفصل السادس بالتدابير المتعلقة بالتسوية السلمية للنزاعات، وهو ما يشير إلى اتخاذ إجراءاتٍ قسريةٍ في حال كان السلام مهدّداً، وهي إجراءات قد تتدرّج من فرض عقوبات اقتصادية أو غيرها وصولاً إلى اللجوء إلى استخدام القوة، وهو ما يعني أن في وسع هذا المحفل الدولي أن يوفّر حماية حقيقية للفلسطينيين فيما لو توفرت النية لذلك. ولكن لأن كيان العدو مشروع استعماري في الأصل، وُجد لكي يبقى، يتمتّع بحماية عدد من أصحاب حق الفيتو، وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة التي وقفت على الدوام في وجه أي محاولةٍ من أي عضو آخر، لتفعيل الفصل السابع، لوقف العدوان. وهكذا تصبح الدعوات الفلسطينية الرسمية بهذا الخصوص مجرّد لغو كلامي مكرّر ومملّ بلا طائل.

هذا على صعيد المحفل الأممي، فما الحال على صعيد جامعة الدول العربية مثلا، ومن تضم من بلاد العرب أوطاني؟ إنها تجمّع لا يتحرّك فعلا، إلا لحماية الأنظمة، بل إن ميثاق الجامعة ينص على ما يسمّونه “عدم تدخل كل دولة في الشؤون الداخلية لكل دول الجامعة”، بل اكتفى هذا المحفل العربي بإصدار البيانات المنسوخة في كل مؤتمر قمّة على مستوى الرؤساء والزعماء، ولم يجر تفعيل أيٍّ من قرارات “الحماية الحقيقية” للشعب الفلسطيني، بل غدت السياسة العربية الرسمية خير معين للاحتلال في ارتكاب جرائمه، لأن هذه السياسة “تقدّس” تجريم المقاومة الفلسطينية، ووضعت لذلك قوانين صارمة لحماية الاحتلال من هذه المقاومة، وغدا أيّ نشاط يمد المقاومة بالمال أو السلاح فعلاً من أفعال “الإرهاب” المحاكم عليه والمجرم قانونيا، بل أحيانا وفي بعض البلاد مجرّد القول أو الكتابة، دعما للمقاومة أو إدانة للاحتلال أو انتصارا لفلسطين، مدعاة للمساءلة والمحاكمة والاعتقال، وكم من عربيٍّ أو فلسطينيٍّ زجّ في المعتقلات العربية بتهمة دعم المقاومة، بالفعل أو بالقول، بل لم تزل بعض معتقلات العرب “تحتفظ” بفلسطينيين اتهموا بـ “الإرهاب” بسبب تعاطفهم مع قضية فلسطين. أكثر من ذلك صنفت بلاد عربية مسلمة منظمات فلسطينية عربية “إرهابية” تأسّيا بتصنيفات الاحتلال ومن يناصره في “المجتمع الدولي”.

وهكذا نرى أن الشعب الفلسطيني محارَب على صعيد دولي، والاحتلال محميٌّ في محافل العرب والعجم. أكثر من ذلك، ذهبت بعض الأنظمة العربية إلى أبعد من هذا بكثير، حيث عقدت مع الاحتلال اتفاقات “سلام!” وفّرت له بيئة خصبة للبطش بالشعب الفلسطيني، وأطلقت يده في ارتكاب الفظائع ضده، و”تهويد” أرضه وسلبه كل مقوّمات الحياة من أمن ومياه ومصادر طبيعية وإنتاج زراعي، واشتملت تلك الاتفاقات على بنود علنية وسرية توفّر تعاونا أمنيا وعسكريا واستخباراتيا، بين أنظمة عربية وأجهزة كيان العدو، لإعانته على خنق المقاومة ومحاصرتها، وملاحقة رجالها. فكيف لأنظمةٍ هذا شأنُها يمكن أن توفر حماية لشعبٍ واقع تحت احتلال غاشم؟ وكيف يمكن التوجّه إلى من يحمي المجرم أصلا، ويوفّر له البيئة المناسبة للإفلات من العقاب أن يحمي الضحية؟ بل أكثر من هذا، توفر السلطة التي تطالب العرب والعجم بحماية شعبها بيئة مشابهة لرعاية الاحتلال وملاحقة المقاومين وزجّهم في غياهب السجون، وإذاقتهم ألوانا من العذاب والتعذيب، لأنهم فقط يقاومون الاحتلال، وذلك بذريعة “حماية المشروع الوطني الفلسطيني”، وهي ذريعة مضحكة حتى البكاء دما، لأن هذه السلطة التي تطالب بحماية دولية للشعب الفلسطيني هي التي تبطش به، وتحمي الاحتلال المجرم من أي مقاومةٍ تهدّد مشروعه الاحتلالي والإحلالي!

والحقيقة الناطقة على الأرض أن من يحمي الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني هو هؤلاء المقاومون، سواء كانوا أبناء تنظيمات أو “ذئابا منفردة” وهم الحرّاس الحقيقيون لسلامة الضمير الجمعي الفلسطيني، الذي يرفض الاحتلال وجرائمه وكل من يمدّه بأسباب القوة، عربيا كان أو أعجميا، أو حتى فلسطينيا، يحمل يعلم فلسطين!

بل، وهو الأهم، إن المقاومة الفلسطينية إحدى أهم أدوات حماية العقل الجمعي العربي من التلوّث بدنس ما يسمّونه التطبيع، والتنسيق الأمني العربي مع الاحتلال، بل هي “صاعق التفجير” القادر على “كهربة” المشاعر العربية، وشحنها بالحيوية والرفض والرغبة بالتحرّر من الاستبداد الرسمي، وهي أحد المحرّكات الرئيسة لإبقاء شعلة الحياة نابضة في الضمير الجمعي العربي. لهذا تحرص جل الأنظمة العربية على إطفاء كل نار للمقاومة الفلسطينية، خوفا من “تطاير شرر الحياة” إلى “الحظائر” التي تحتجز فيها شعوبها، بعيدا عن أي كل مؤثّر قد يحيي فيها إنسانيتها، وحقها في الحرية والعيش بكرامة، وتلك هي الحكاية وأصلها، وهذا هو سرّ وقوف الرسميين العرب مع الاحتلال، ودعم مشروعهم الإحلالي المجرم ضد أبناء فلسطين، سواء كانوا على الأرض الفلسطينية أو حتى في الشتات.

لا تحمي المقاومة الفلسطينية الوطني الفلسطيني فقط، ولا تحرس فقط الذاكرة الجمعية الفلسطينية من أي تلوّث، بل هي تحمي الضمير العربي، ومشروع النهوض العربي بأسره. ولهذا نرى رأسها مطلوبا حيثما وُجد. وما زلت أذكر ما قاله لي أحد أهم المسؤولين الأمنيين العرب بلغةٍ لا تحتمل التأويل، إن مهمته الرئيسة في الحياة كسر قدم (وذكر لي اسم تنظيم فلسطيني مقاوم) حيثما وُضعت وفي أي أرض.

مقالات ذات صلة