شبح التهجير يحلّق في سماء قطاع غزّة

سعيد زيداني

حرير- شبح التهجير، القسْري أو القسْري/ الطوعي، ما زال يحلّق في سماء قطاع غزّة. وسوف يستمر في التحليق في هذه السماء، على الأرجح، حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها. والمقصود بالتهجير في هذا الصدد ليس النزوح القسْري أو القسْري/ الطوْعي من شمال القطاع إلى وسطه أو جنوبه أو من جنوبه إلى جنوب جنوبه، وإنما مغادرة حدود القطاع واللجوء إلى دولةٍ أو دول أخرى، عربية أو غير عربية. ولا يحتاج المرء إلى فطنةٍ خاصةٍ كي يستنتج أن التهجير كان ولا يزال هدفًا مرافقًا كالظل لأهداف الحرب المعلنة من حكومة إسرائيل المدعومة أميركيا، ذلك الهدف المرافق كالظل الذي حاول ولا يزال يحاول التصدّي له الحكّام ألعرب المعنيون. ورغم هذه المحاولات، ما زال هدف التهجير قائمًا وداهمًا، وما زال شبحه المرعب محلقًا في سماء القطاع.

وليس خافيًا أن أصواتًا كثيرة وموثرة في إسرائيل اليهودية تنادي بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة إلى مصر ومن مصر إلى دول أخرى، عربية وغير عربية. ولكن الأهم من هذه الأصوات، الكثيرة والمؤثرة، والتي تعالت أخيرا، هو هول وبشاعة ما فعله وما زال يفعله الجيش الإسرائيلي في القطاع منذ بداية الحرب المعلنة، فخلال فترة شهرين ويزيد من القصف الجوي والبرّي والبحري الجنوني والمتواصل، تم حتى نهاية اليوم الـ70 للحرب قتل ما لا يقل عن 19 ألف فلسطيني وفلسطينية، وإصابة ما يقارب 55 ألفا بجراح متفاوتة، إضافة إلى آلاف من المفقودين. ولم تسلم الطواقم الطبية والصحافية وطواقم الإغاثة والدفاع المدني من هذا القصف الجنوني. كما وتم التدمير الكلي أو الجزئي لأكثر من نصف المباني في القطاع، يشمل مئات من المدارس والعيادات الطبية ودور العبادة والمراكز الثقافية والمرافق الخدمية. كما وجرى تجريف الأراضي الزراعية والطرق وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، خصوصا في مدينة غزة وشمالها. وحرم الغزّيون ظلمًا من الحد الأدنى، أو دونه، من الماء والغذاء والدواء والكهرباء والوقود فترة غير قصيرة. على خلفية هذه الجرائم البشعة ضد المدنيين، وبالتزامن معها، وكلها تنطوى على انتهاك فاضح للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وبعضها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وواحدة منها قد ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية، يُؤمر الغزّيون المدنيون في مدينة غزة وشمالها بالنزوح إلى “مناطق آمنة ” جنوب القطاع، ومنه إلى جنوب جنوبه لاحقًا، وذلك من دون أن يمتنع جيش الاحتلال عن قصْف تلك المناطق التي نزح إليها ما يزيد عن المليون وربع المليون من البشر. ويعرف العارفون الآن: لا مناطق آمنة في قطاع غزّة، لا في وسطه ولا في جنوبه ولا في جنوب جنوبه.

وإذا استمر القصف العشوائي، المكثف والمتواصل، على شمال القطاع ووسطه وجنوبه شهورا قليلة أو أسابيع كثيرة، وإذا استمرّ منع النازحين من العودة إلى ما تبقى من بيوتهم بعد القصف المدمّر وإعادة تأهيلها، وإذا استمرّ الحرمان من الدراسة والعمل، ومما يكفي من العلاج الطبي وماء الشرب والغذاء والوقود، فهل تستطيع السلطات المصرية وقف زحف معذّبي الأرض، الهاربين من الموت المحدق، نحو شمال شبه جزيرة سيناء؟ وهل تستطيع ذلك عمليًا وإنسانيًا وأخلاقيًا، خصوصا إذا كانت المحطّات النهائية المقصودة للنازحين دولًا عربية وأوروبية تقبل بهم؟ ربما تستطيع مصر، ومن واجبها الوطني والقومي والإنساني، أن تحول دون التهجير القسري، أي الطرد المباشر من القطاع إلى شمال سيناء، ولكنها لا تستطيع ذلك، في ظني، إذا كان اجتياز الحدود بسبب الجوع أو هربًا من الموت بعد فقدان المسكن الواقي أو المأوى الآمن. وهذا ما أسميه هنا بالتهجير القسْري/ الطوْعي، وهو تهجير قد يمتد فترة طويلة، تتجاوز، بالطبع، نهاية حالة الحرب المعلنة من حكومة إسرائيل.

ولكن التهجير، القسري (الطرد بالقوة) أو القسْري/ الطوْعي، وهو إذا تحقّق يكون المعادل الموضوعي لـ”نكبة غزّة”، ليس قدرًا لا يمكن تجنّبه أو الهروب منه. هو، من دون شك، هدف مُراد ومشتهى من الحكومات المتعاقبة لدولة إسرائيل اليهودية، وفي مقدّمتها الحكومة اليمينية المتطرّفة الحالية، والتي تعتبر قطاع غزّة شوكة ديمغرافية وأمنية موجعة وعالقة في الحلق. وهو هدفٌ مرافقٌ كالظل، كما قلت وأردّد، للأهداف المعلنة للحرب الحالية، أكثر الحروب بشاعة ودموية، وما زال بالإمكان ردع هذا الهدف الخفيّ المرافق أو هزمه، ولكن هذا يتطلب جهدًا فلسطينيا/ عربيا/ دوليًا، منسقًا ومكثفًا وعاجلًا، لتمكين الغزّيين النازحين نحو الجنوب من البقاء حيث هم، وكذلك من عودتهم إلى ما تبقّى من منازلهم التي أفسدها القصف الوحشي والعشوائي. وهذا يتطلب إلزام القوات الإسرائيلية بأحكام القانون الدولي الإنساني، وخصوصًا الواردة في إتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية المدنيين والمرافق المدنية وقت الحرب. كما ويتطلب توفير ما يلزم من الغذاء والدواء والوقود والمأوى والأمان وبقيّة مستلزمات الحياة الكريمة، ولو بحدّها الأدنى. وأعتقد أن الظرووف الدولية أصبحت مواتية وناضجة لنجاح مثل هذا الجهد، ذلك النضوج الذي وجد تعبيرًا صادقًا وواضحًا له في قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة أخيرا، وقبل ذلك بأيام قليلة في مداولات مجلس ألأمن، وقبل ذلك في قرارات مؤتمر القمّة العربية الإسلامية في الرياض في 11 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني). وجدير ذكره في هذا الصدد إن تصريحات الرئيس الأميركي بايدن في 12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وهو صديق إسرائيل وحليفها وسندها في الحرب منذ البداية، لا تتنافى مع ذلك كله، هذا إذا استثنينا، بالطبع، رفضه وقف إطلاق النار الفوري وطويل الأمد.

وأخيرًا، في ردّها الانتقامي على العملية العسكرية المباغتة والمؤلمة التي نفّذتها كتائب القسام بمشاركة سرايا القدس يوم 7 أكتوبر، وفي ادّعائها أن الحرب هي من أجل البقاء ولحماية “البيت”، ارتكبت القوات الإسرائيلية الكثير الكثير من المخالفات الفظة لأحكام كل من القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، تجلت بصورة صارخة في القصف العشوائي، المكثف والمتواصل، الذي استهدف المدنيين والأحياء السكنية والطرق والمزارع والمرافق المدنية والخدمية. وكانت النتائج، كما نعرف، كارثية ومُفزعة. وفوق ذلك كله، وبأمر جيش الاحتلال وتهديده بالقصف، نزحت قسْرًا مئات آلاف العائلات الغزّية إلى جنوب القطاع وجنوب جنوبه، وآلاف كثيرة من تلك العائلات النازحة تقيم حاليا في العراء أو في الخيام هناك، وبدون ما يلزم من الغذاء والدواء والمأوى الآمن نسبيًا. وشمال شبه جزيرة سيناء على مرمى حجرٍ أو حجريْن أو ثلاثة من هؤلاء النازحين. في مثل هذه الظروف والأجواء، وكما في قصص الأشباح المعروفة، لا يكفّ شبح التهجير المرعب عن التحليق في سماء كل من خانيونس ورفح الفلسطينية وفوق رؤوس الغلابة النازحين قسْرًا أو قسْرًا/ طوْعًا إليهما. فاعتبروا يا أولي الألباب من الأحرار، أحرار العالم، عربًا كنتم أم عجما!

مقالات ذات صلة