انتفاضة فلسطينية في الأفق

سمير الزبن

حرير- لا تشكّل الحكومة الإسرائيلية اليمينية، بزعامة بنيامين نتنياهو، تغيراً كمياً في السياسات الإسرائيلية الداخلية فحسب، وهو ما تمثله التعديلات القانونية بشأن المحكمة العليا، ولا بشأن الصراع مع الفلسطينيين فحسب، بل تشكّل تغيّراً نوعياً أيضاً. لأول مرة يعبّر نتنياهو عن مفهومه الحقيقي للحل السياسي مع الفلسطيني، بعد أن اعترف، في وقت سابق، مُجبراً، وبشكلٍ غير جدّي بتأييده حلّ الدولتين، خلال لقاء مع الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما. حصل ذلك مع إحساسه بالقوة، وافتقاد الإدارة الحالية الإرادة، وبعد دعمٍ لا محدود من الإدارة السابقة بزعامة دونالد ترامب، ما أعطى حصانةً لإسرائيل لدى الإدارة الأميركية، وهو بدوره منح إسرائيل إحساساً مضاعفا بالقوة والحصانة. وتركت الإدارة الأميركية الفلسطينيين للصلف الإسرائيلي، ولم تقم سوى بانتقادات باهتة للاحتلال الإسرائيلي، زادت من تفاهتها التصريحات والانتقادات الأميركية القوية في انتقادات الاحتلال الروسي لأراضي في أوكرانيا، والتي ترافقت مع دعم غير محدود لمواجهة الاحتلال الروسي. وليست السياسات الأوروبية أحسن حالاً تجاه الاحتلال الإسرائيلي وسياساته وجرائمه. كما منح التطبيع مع الدول العربية، رغم استمرار الاحتلال والسياسات الإسرائيلية في قمع الفلسطينيين، مزيداً من الإحساس بالقوة، لأن بعض العرب أخرجوا الموضوع الفلسطيني من علاقاتهم بإسرائيل من دون أن تقدّم إسرائيل أي تنازل. دفعت كل هذه العوامل نتنياهو إلى التعبير عن موقفه الحقيقي من الحل مع الفلسطينيين، عندما قال: “يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولةٍ مستقلّة لهم”. ويرى اليمين الإسرائيلي أن هدفه هذا لا يتحقّق إلا بالقوة، وإن فشل، فإن مزيداً من القوة كفيل بتحقيقه. لذلك ليست السياسات القمعية الإسرائيلية استعراضاً للقوة فقط، بل هي الوسيلة التي ترى قوى اليمين المتطرّف في إسرائيل أنها الوحيدة القادرة على اقتلاع أحلام المستقبل بدولة مستقلة من رؤوس الفلسطينيين.

إنها حكومة إسرائيلية تعد الفلسطينيين بالقمع وتحطيم مستقبلهم، وتعتقد أن ذلك سيجعل الفلسطينيين يستسلمون لهذا الجنون الإسرائيلي. ولا يفهم هذا اليمين، لماذا لا يستطيع الفلسطينيون التسليم بشروط إلغائهم، ويستسلمون لقوىً متطرّفة لا تعترف بوجودهم أصلاً، وتريد سرقة ما تبقى من وطنهم وأمام أعينهم.

على مدى تاريخه، لم تتغيّر العوامل المكوّنة للصراع، وهي ما أنتج مقاومة فلسطينية في كل مراحل الصراع. وإذا كانت إسرائيل قد استطاعت أن تقوم على أنقاض الوطن الفلسطيني، فإن مشروع إخفاء الفلسطينيين عن الخريطة السياسية ليس جديداً على السياسات الإسرائيلية، التي سعت منذ إنشائها إلى إخفائهم وإنكار وجودهم. صحيحٌ أن المشروع الصهيوني استطاع هزيمة الفلسطينيين في حرب العام 1948، وأسّس كيانه، لكن المقاومة الفلسطينية استطاعت الحفاظ على شعب وإعادة تكوينه في مواجهة هذا الإلغاء.

اليوم، تمارس إسرائيل محاولة جديدة لإلغاء الفلسطينيين بسرقة ما تبقى من وطنهم في هجمة استيطانية غير مسبوقة، وتشديد قبضة القمع تحت ذريعة محاربة الإرهاب. ولا شكّ أن الفلسطينيين يشعرون بحالةٍ من اليأس تجاه المستقبل، وتجاه تجاهل العالم قضيّتهم وإدارة ظهره لهم، وغضّ النظر عن الجرائم الإسرائيلية التي تُرتَكب بحقه. وفي هذه الحالة، ليس أمام الفلسطينيين سوى أن يعملوا على إعادة إعلان وجودهم على الخريطة السياسية، ويعلنوا أن سياسات الإلغاء وتحطيم حلمهم بمستقبلهم لن تمر.

لقد أدّت السياسات الإسرائيلية ذاتها والعابرة للحكومات الإسرائيلية إلى انفجار انتفاضتين شعبيتين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي (1987 – 2000) على اختلاف طبيعة الانتفاضتين. والعوامل ذاتها ما تزال قائمة، والممارسات القمعية الإسرائيلية ما تزال على حالها وتزداد سوءاً، حتى إنها تتوسّع في ظل الحكومة الحالية بزعامة نتنياهو: من سياسات التوسّع الاستيطاني، إلى تقطيع الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى معازل، وتسهيل هجوم غلاة المستوطنين على القرى العربية وإحراق المنازل والسيارات والاعتداء على المواطنين، وذلك كله بحماية الجيش، والضغط على الأماكن المقدّسة في مدينة القدس القديمة من خلال التضييق والحصار والمنع والاستفزاز بزيارات الوزير إيتمار بن غفير وغيره للمسجد الأقصى، إلى سياسات هدم المنازل، إلى عمليات الاعتقال، إلى تحويل حياة الناس إلى جحيم على مئات الحواجز الإسرائيلية المنتشرة في الضفة الغربية … إلخ، وأضاف نتنياهو، أخيراً، اقتلاع هدف الدولة من رؤوس الفلسطينيين.

كل الأسباب لتفجر انتفاضة فلسطينية جديدة قائمة، فليس هناك نقصٌ في العوامل الموضوعية التي تؤسّس للانفجار الكبير. ويبدو ما يجري في الضفة الغربية بروفاتٍ ميدانية، تؤسّس لهذا الانفجار الكبير. ولأن العوامل الموضوعية لا تكفي لتفجر انتفاضة جديدة، لا بد من عامل ذاتي قادر على حمل هذه المهمّة الكبرى، وهو ما يفتقد إليه الواقع السياسي الفلسطيني، في ظل حالة الانقسام التي تعاني منها الساحة الفلسطينية. لكن يبدو أننا اليوم أمام ولادة واقعٍ جديد، يقوم على أن قسماً مهماً من الجيل الجديد، الذي ينتمي إلى الفصائل المتصارعة، تجاوز هذه الخلافات، وينسّق مع بعضه بصرف النظر عن الخلافات السياسية بين الفصائل، لأن الاحتلال في قمعه الفلسطينيين لا يميّز حسب الهوية السياسية للفلسطيني، فالجميع مستهدفون. وهؤلاء أيضاً ينسّقون مع مجموعات من المستقلين، ما يجعلنا نقول إن هناك شبكة من البنى التحتية للمناضلين، يتم تشبيكها على طول الضفة الغربية وعرضها، متجاوزةً الخلافات الفلسطينية، ومبشّرة بقيادة ميدانية، قد تكون شبيهة بالقيادة الموحّدة للانتفاضة الأولى التي شكّلت العمود الفقري للنضال الميداني.

إذا كان تقديرنا التشبيك الميداني بين جيل المناضلين الجديد صحيحاً وواقعياً، فإن العوامل الذاتية قد تكون ناضجة. ولأن أصحاب الميدان أدرى به، فإنهم لا شك الأكثر قدرة على إبداع نضالي في الشروط الميدانية الصعبة، والتي جعلت اتفاقات أوسلو الصدام مع الاحتلال أكثر صعوبةً من التجارب السابقة. وليس هذا المطلب اليوم ترفاً نضالياً، بل هو ضرورة وطنية في مواجهة الاحتلال في فترة من أخطر الفترات التي تمرّ فيها التجربة الفلسطينية، وفي شروط فلسطينية ذاتية وعربية ودولية تبدو غير مواتية. لكن حكومة نتنياهو واليمين المتطرّف وسياساته العدوانية والاستيطانية، لم تترك أمام الفلسطينيين خياراً، سوى الإعلان عن مقاومة شاملة لهذه السياسات التي تلغيهم وتلغي مستقبلهم في وطنهم.

مقالات ذات صلة