أن تكون خارج التغطية

محمود الريماوي

حرير- يشكو كثيرون من سطوة تقنيّات التواصل الحديثة على حياتهم، وما تحمله هذه الوسائط من ضغوطٍ ذهنيةٍ وعصبيةٍ عليهم، غير أن هؤلاء في جملتهم يرون، بصورةٍ أو بأخرى، أن استخدام تكنولوجيا الاتصالات بات قدرا لا رادّ له، وأنه تستحيل العودة إلى الوراء، إلى الهاتف الثابت وراديو السيارة وما تبقى من صحفٍ ورقية، وإلى جهاز التلفاز والقلم والورقة، إلا إذا أراد الشخص الانكفاء شبه التام، والتضحية بجملة علاقاته المهنية والشخصية.

ونعرف أن وجود الهاتف الذكي مثلا أنقذ أشخاصا من التيه والموت عطشا في الصحراء، وسهّل عودة أطفال ضائعين إلى ذويهم، وأن بعض ضحايا الزلازل في سورية وتركيا ممن حالفهم الحظ ولم يفقدوا هواتفهم، قد استعانوا بها للتدليل على أماكن وجودهم تحت الأنقاض. كما يدرك المرء أن الفروق بين الحياتين، المهنية والشخصية، باتت ضئيلة، بحيث بات الفصل محدودا بين هذه وتلك، فكلٌّ من العامل ورجل الأعمال والموظف والمدير والخبير والفني والطالب بحاجة إلى إدامة التعرّف، ساعة بعد ساعة، إلى ما هو جديد في نطاق عمله أو دراسته أو شغفه المعرفي، فضلا عن التواصل مع شبكة حياته. وإن الأمور في سبيلها إلى مزيد من التشابك بين النطاقين، العملي والشخصي، وإلى مزيدٍ من الاعتمادية على الحضور الرقمي أو الهوية الرقمية.

ذلك كله صحيحٌ لا مراء فيه، غير أنه تبقى حاجةٌ للمرء لأن يخلو لنفسه، بعيدا عن عالم التنبيهات المتوقّعة والإشارات المنتظرة والاستجابات المطلوبة، وذلك اقترانا بحاجته للتمتّع بإجازة من الانشغالات الروتينية، وأن يرى، بمداركه وحواسّه، العالمين، الخارجي والواقعي، كما هو عليه، ولا يعود نهباً لتأثيرات العالم التكنولوجي الذي يُطبِق على ذهنه وذاكرته وأعصابه. ويسترعي الانتباه أن البشر في سبيلهم إلى التضحية بهذا الحق، فكما أن الاختلافات تكاد تمّحي بين الحياتين، المهنية والشخصية، كذلك فإن الفروق تكاد تختفي بين يوم العمل والدراسة ويوم الإجازة والراحة، ما يجعل الحياة تدور ضمن إيقاع واحد متوالٍ ومتصل، يفقد فيه المرء معالم طريقه إلى ينابيع ذاته، فيما يُزّين له أن كل شيء في الحياة بات متيسّرا وفي متناول اليد وغبّ الطلب بفضل الهاتف الذكي.

إننا نعرف خلال ذلك أن ثمّة نفرا من الناس هنا وهناك، على قلة عدد هؤلاء، يكتفون بالهاتف الصغير، يستخدمونه لغايات الاتصال المحدود صوتاً ونصاً، وأنهم متصالحون مع أسلوبهم هذا ومكتفون به، وهؤلاء هم غالبا إما أنهم متقدّمون في السن، ويتمسّكون بنمط حياة قديم، أو ينتمون لشريحة اجتماعية ضعيفة ممن تسهل رؤيتهم في قلب مدن آسيوية وأفريقية وفي مناطق الأرياف، وأنهم لا يستشعرون ذلك النقص المتخيّل في حياتهم.

ونعلم أن بعض المؤثّرين يمتنعون عن فتح حسابات لهم على منصّات التواصل، ويكتفون بالبريد الإلكتروني للتواصل، ويحتفظون بنمط حياتهم المعهود، إذ يخصّصون اوقاتا كافية للتواصل مع الأصدقاء والعائلة، وتمضية الوقت مع فيلم أو كتاب أو بالمشي، فضلاً عن الإصغاء للنفس وللموسيقى وأصوات الطبيعة والواقع.

عالم الاتصالات الكثيف والمتشابك مع ما يحمله من إمكانات وحلول وفرص ووعود هو أيضا عالمٌ للبزنس.. عالمٌ للصناعة والتجارة والتصدير، وكلما ازداد البشر اندماجا في هذا العالم، وارتباطا دائما به، زاد معه استهلاكهم هذه المنتجات ومخرجاتها وما يتولّد عن ذلك من ادمان على هذا الاستهلاك. ومن شأن الإدمان هنا إعادة بناء شخصية المدمن الذي يقيم علاقته مع العالم عبر جهازه التقني، ويتلقّى من خلاله الخدمات والسلع والإجابة عن أية استفسارات وتلبية أي فضول، مستغنياً بذلك عن الخبرات التي تتأتّى من التجارب الواقعية، ومتخلياً عن ذاكرته، إذ تتولى محرّكات البحث التذكّر عنه. وفي حين يصبح نموه الشخصي مهدّدا، فإن مزيدا من أجهزة الذكاء الاصطناعي ينمو بدلاً منه ونيابة عنه، كي تلبّي حاجاته الفعلية أو المزعومة.

ليس في الوسع التخلّي عن الوسائط الحديثة، فالمَرافق والمؤسّسات الأساسية والخدمية، بما فيها أماكن العمل، تتطلب أن يكون للشخص هوية رقمية، غير أن المرء في حاجةٍ لأن يحوز، بين حينٍ وآخر، على استراحةٍ يخرُج فيها بعض الخروج من هذه الشبكة التي تلتفّ خيوطها الملموسة غير المرئية على كيانه، وتحرمه من الوجود الطبيعي. ومن غرائب الحياة الجديدة سعي المرء إلى الارتباط بهذه الخيوط ودوام التفافها عليه، حتى في أثناء التمتّع بإجازة قصيرة، فينهمك المسافر مثلا في اتصالاتٍ لا تنقطع مع البلد الوافد منه، أو مع أصدقاء واقعيين وافتراضيين، يتوزّعون في أصقاع الأرض، ويغفل خلال ذلك، وهو في حالٍ من الانتشاء عن معاينة البلد الجديد الذي قصده، والذي يحلّ فيه، وهو أمرٌ شبيهٌ بتفضيل الصداقات الافتراضية على تلك الواقعية، أو على تحوّل الصداقات الواقعية إلى صداقات افتراضية، فيتم اللقاء على الماسينجر بدل اللقاء في المقهى، ويهنئ فلانٌ علانا أو يواسيه أو يحييه على منصة التواصل بدل الالتقاء به “في دروب الحياة”.

كانت المحاذير في ما مضى، مع تقدّم الثورة الصناعية والإنتاجية، وزيادة السلع والخدمات ووسائل الترفيه، تكمن في تشيؤ إنسان العصر، وفي صيرورة المرء ببُعد واحد.. استهلاكي، والخشية الآن أن يغدو كائن الألفية الثالثة بغير أي بُعد أو قوام مع تهتّك علاقته بالمكان والزمان (تعاقب الليل والنهار مثلا)، فيما يتاح لبعض المنتجات الذهنية والفنية أن تصبح ثلاثية الأبعاد. بينما يتولى الهاتف الذكي جعل مستخدمه الملتصق به والقابض عليه كمن يقبض على إكسير الحياة، فاقدا أي ذكاء.

عسى أن لا يخرج القارئ بانطباع فحواه أن السطور السابقة تنمّ عن نزعة رجعية نكوصية إلى الوراء، فيما ديدن الحياة أن تمضي إلى الأمام، أو أن تلك السطور تكشف عن رومانسية مفرطة، يرتهن صاحبها لذكريات “زمن جميل” مضى وانقضى. وكل ما في الأمر أن كاتب هذه السطور خاض تجربة الانقطاع عن وسائط التواصل، وتجربة أن يكون خارج التغطية خمسة أيام متصلة مُهتبلاً فرصة السفر، وأن خوض هذه التجربة لم يكن بتلك المشقّة، وأن حصيلتها لم تكن سيئة، رغم الحرمان الذاتي من متابعة تنبؤات عالم الزلازل الهولندي فرانك هوغر بيتس يوما بيوم، وكذلك من متابعة وقوع زلازل صغيرة ومتوسّطة هنا وهناك، والتي حلت محلّ أخبار متحوّرات كوفيد 19 غير المأسوف عليه.

مقالات ذات صلة