غزّة أعادت القضية الفلسطينية إلى مركزيّتها

دلال البزري

حرير- كان الكوكبُ كله في مكان آخر قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول (الشهر الماضي)، والفلسطينيون شعباً منسياً، إلا في أروقة المزايدات والذرائع، وفكرة مركزية قضيتهم عربياً آخذة بالاضمحلال. أما الآن، فلا. الحدث منذ بدايته، فجَّر زلزالاً، بؤرتُه غزّة الفلسطينية. ارتعشت له قشرة الأرض، وانطلقت من باطنها طاقة هائلة من العنف والإبادة والدمار. ما أخلّ بتوازناتٍ وعقائد وترتيبات كانت شبه مستقرّة، ولكنها ذات سيولة عالية.

إسرائيل وجودياً. لنتذكّر: الطموح الصهيوني الطوباوي، أساس عقيدة إسرائيل الوجودية، يقول بإقامة دولة تمنح اليهود وطناً “طبيعياً نهائياً آمناً”. تهتزّ هذه العقيدة اليوم أكثر من أي وقت مضى. ومعها اضطربت فكرة أن إنشاء دولة يهودية سيجعل اليهود سعداء آمنين. وكان شرط هذين، السعادة والأمان، أن تكون لإسرائيل دولة قوية، واقتصاد حديث، وجيش عظيم. والثلاثة تلقّوا ضرْبة مباشرة.

ما حصل خلْخل هذه الأسس في 7 أكتوبر. ولم يبق إسرائيلي إلا وعلَّق على طريقته، ومن الزاوية التي يقف فيها، من مسؤولين الى سفراء الى روائيين ومثقفين، يعبّرون عن أزمة وجودية بالمعنى الحرفي للكلمة، أي أزمة وجود اليهود على هذه البقعة من الأرض، يعبّرون عن أزمتهم الوجودية بطرقٍ ملتوية مختلفة.

لم ينجُ المؤرّخ الإسرائيلي، يوفال هراري، من التضارب الذي استولى على رؤوس إسرائيلية كبيرة. كل ما وجده للقول، هو معاتبة “اليسار العالمي” على بيان أصدره، لم يُشِر”إلى فظائع حماس”، بل ويتضامن مع الفلسطينيين. يؤكّد أن “لا نيّة لإسرائيل بقتل مدنيين من دون حساب”، وينهي حديثه بالمقارنة بين الأسد ونتنياهو، فالأخير لن يصل “إلى ما فعله نظام الأسد (بالشعب السوري) في حمص وحماة”. والتظاهرات القليلة في تل أبيب، المطالبة بوقف المجزرة ضد أهل غزّة لم تثِر لدى هذا المؤرخ “الحسّاس”، السؤال عن معضلة إسرائيل الوجودية هذه. وبدا الشارع الإسرائيلي المتظاهر، على ضآلته، أقلّ دوغمائية منه.

هذا اليسار العالمي، المقصود بالأوروبي والأميركي، يشهد في دياره أعمق النقاشات والانقسامات والإحالات التاريخية. في فرنسا، خرج الرئيسان، شارل ديغول وجاك شيراك، من أرشيف التاريخ، وتكلم ديغوليون عن شرف دفاع الرجلين عن فلسطين، الأول بالكلمة الحقّة، والثاني بتصدّيه للجيش الإسرائيلي في قلب القدس… اللتين ينطق الرئيس الحالي بنقيضهما، “ملوّثاً الضمير الفرنسي”. وانقسمت الأحزاب الفرنسية، بين يمين (معتدل) يشّبه “حماس” بـ”داعش”، ويقول إنها حرب حضارات بين الغرب الديمقراطي والإسلاميين والإرهاب، وبين حزب وسط يوفَّق أحد أقطابه بصيغة “متوازنة”: “إذا كان العنف البربري لحماس بلا عُذر، فإنه ليس من دون سبب”. وبين أحزاب يسارية جلها في ائتلاف، منقسمة على نفسها، بين متضامن بالمطلق مع الشعب الفلسطيني، ومتضامن مع “تحفّظ” حول عملية “حماس”. فيما اليمين المتطرّف يضحك في عبّه؛ فنظرياته عن “صراع الحضارات” تتجلّى الآن في غزّة على بأسطع الأوجه. وهي تثبت ما يبوح به منظّروه وروائيوه، القائلون بنظرية “الاستبدال الكبير”، أن المسلمين سيحكمون أوروبا بعد جيلين أو ثلاثة.

في ألمانيا، حيث أكبر جالية فلسطينية أوروبية (80 ألفا)، منعت كل مظاهر التأييد للفلسطينيين في البداية. ونُبش التاريخ، فحضر الذنب الألماني تجاه اليهود، تبريراً للمنع، فأعلن المستشار الألماني، أولاف شولتز، نيابة عن الغالبية: “مسؤوليتنا في المحرقة تفرض علينا الدفاع في كل دقيقة عن وجود إسرائيل وأمنها”.

وفي بريطانيا، التي شهدت أكبر التظاهرات المؤيدة، قالت الحكومة البريطانية إنها منعت رفع العلم الفلسطيني، “لأن بعضهم يراه مثل الصدى لإعلان “بلفور”، وصاحبه آرتور جيمس بلفور، رئيس وزراء بريطانيا المحافظ، في أوائل القرن الماضي، والمعروف أن هذا الإعلان تضمّن “وعداً” لليهود بإقامة دولة إسرائيل في فلسطين.

في إيطاليا، بلجيكا، السويد، اليونان… حتى سويسرا “المحايدة”، اشتدّت فيها الانقسامات حول فلسطين، وتظاهرات، ومنابر، وشخصيات تخرج عن هدوئها، مندِّدة، موضِّحة. وذريعة كل هذه الحكومات حوادث “اللاسامية” المتصاعدة؛ تلك التسمية التي لا تميّز بين العداء لإسرائيل والعداء لليهود. ويكون الصدى الأميركي صاخباً: الآلاف من اليهود الأميركيين يتظاهرون تضامناً مع فلسطين. في التظاهرة الأخيرة، اعتقل مئتان منهم. وفي كندا الأمر نفسه، في كل تظاهرة بمدنها تجد حاخامات، يرتدون زيّهم التقليدي، جنباً الى جنب مع لابسي الكوفية الفلسطينية، يرفعون شعارات الرفض لإقامة إسرائيل.

في روسيا، يفرك بوتين يديه فرحاً واستبشاراً. جاءته الهدية من السماء. عودة هذه الحرب إلى الشرق الأوسط خبرٌ سارٌّ له، لأنه يحرف العالم عن أوكرانيا، لصالح روسيا. وتصدّر الموقف والآراء الموالية له: الغرب الذي يتكلم عن الحق الدولي وعن الجرائم، ها هو يقيس بالمعايير”المزدوجة”… ذاك “الخُبث” الغربي. الحرب على غزّة نعمة على موسكو، تسمح لها بالخروج من عزلتها التي فرضها عليها “الغرب القاتل”. ولروسيا ثماني رهائن لدى “حماس”، يحملون جنسيتها. تحاول أن ترتدي لباس الصلة القوية مع الفلسطينيين فتستقبل شخصياتٍ من “حماس” للبحث في أولئك الرهائن. من دون جدوى. ولكن يكفيها أنها أطلّت على العالم بغير دبّاباتها الموجَّهة ضد أوكرانيا.

هذا ما يسجَّل على المستوى “الماكرو”، المكبَّر. حيث يحضُر التاريخ والانقسامات حوله: المحرقة، اللاسامية، الحرب الحضارية، الإسلاموفوبيا، تاريخ تأسيس إسرائيل، تاريخ الشتات الفلسطيني، وكمٌّ هائل من الاستعادات لوقائع واتفاقات ومشاريع سلام أجهضت، أو لتجارب أيديولوجيات أخرى غير إسلامية مع هذا السلاح المقاوم. والمؤكّد أننا لم نلتقط كل المؤشّرات. فالتاريخ الآن يمشي بسرعة، كأنه يركض. وعقولنا المحدودة لا تستطيع التقاط كل مآثر هذا الجري، أو إخفاقاته. ولكن ثمّة مايكرو، ثمّة مصغَّر أيضا. إنهم الأفراد الفلسطينيون، الذين نُثروا في أنحاء العالم. في أبعد نقاط العالم. مثل ذاك الكندي – الفلسطيني المقيم في محافظة كالغري، واسمُه تامر جرادة. أُخبر أن 11 من أفراد عائلته قُتلوا، هم أمه وأبوه وأخواته البنات، فيما بقي خمسة آخرون تحت الأنقاض، بينهم أولاد إخوته وأبناء عمومته. يتكلم عن فاجعته في شريط عَرَضه موقع الأخبار الكندي، نال عدداً هائلاً من المشاهدات.

باسم يوسف الشهير، الذي يعيش في الولايات المتحدة، يعلن في مقابلة عن الحرب في غزّة، أنه متزوج من فلسطينية من غزة، اسمُها هالة دياب، طبيبة، أهلها هناك، وهي قلقة عليهم، تعيش على وقع ضربات إسرائيل عليها. الباكستاني حمزة يوسف، الأقل شهرة، مع أنه رئيس وزراء إسكتلندا، يعلن أمام الصحافة أنه وزوجته الفلسطينية، ناديا النكلة، من غزّة أيضا، قلقان على أهلها المحاصرين في غزّة، حيث كانوا يزورون أقاربهم. وأضاف أن السلطات الإسرائيلية طلبت من والدَي زوجته المغادرة “لكنها لم تضمن لهما المرور الآمن”. الطفل الفلسطيني وديع الفيومي كان نصيبُه أقسى من الحرب. في ولاية إلينوي بشيكاغو، ابن الست سنوات، يتلقى 26 طعنة من جاره السبعيني، الذي كان يلاطفه عشيّة الحرب، وصار يردّد وهو يطعن الطفل “أنتم المسلمون يجب أن تموتوا!”. الأم أيضا تلقّت نصيبها من الطعن، وها هي راقدة في المستشفى.

ردود الفعل على الجريمة كانت بقياسها. ولكن اللافت أن خبراء نفسيين تدخّلوا في الموضوع، وبدأوا يُسدون النصائح للعائلات، تنشرها مواقع أميركية مختلفة. ومن سؤالهم الأول “كيف يجب أن يتحدّث الأهل والمدرّسون بخصوص الحرب بين إسرائيل وحماس؟”. والإجابة عنه بلائحة من النصائح: تناولوا الموضوع أولا، استمعوا إلى ما يقوله هؤلاء الأطفال، استخدموا لغة عادية تناسب أعمارهم، تجنّبوا الثنائيات، صحِّحوا المعلومات الخاطئة، ركِّزوا على الأطفال. وفي الأخير، راجِعوا أنتم معلوماتكم وتحليلاتِكم وخذوا مسافة منها.

نامت قضية فلسطين دهراً، ونسيناها، نفَرْنا من أصحاب الذرائع بحملها. واليوم عادت أشدّ مركزية. ليس فقط في الوعي أو في الحكايات الفردية، أو الجماعية، إنما بذاك التشابك الدقيق الذي أوجده الفلسطينيون بتراكم السنوات، بين عوالم مختلفة متباعدة. ونحن لم نصف غير القليل من هذا التشابك، ذاك الذي تناهى إلينا. والأكثر من هذا القليل: إما أنه لم يصل إلى إدراكنا، أو أنه متأخّر لأنه ما زال جنينياً، أو أن أسراراً تحميه من الضوء. هذا كله ولم نتكلم عما دخل في عقول الشعوب العربية، أو خرج منها، بعد “طوفان الأقصى”.

مقالات ذات صلة