نور الدين حجّاج كاتباً وشهيداً: هذه رسالتي الأخيرة

حرير – نور الدين حجّاج كاتب وروائي فلسطيني شابّ، وُلد في غزة بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير عام 1996، واستشهد فيها بتاريخ 3 كانون الأول/ ديسمبر الجاري بعد القصف الصهيوني على منطقة الشجاعية، شرق المدينة.

صدرت له روايتان، الأولى “غريب وغريبة” عام 2018 عن “دار الكلمة للنشر” في القاهرة، والثانية “أجنحة لا تطير” عام 2021 عن “دار فضاءات للنشر” في الأردن.

أنهى نور دراسته الجامعية بتخصّص رياضيات حاسوب وحصل على درجة البكالوريوس وعمل مدرّساً في “مدرسة الكرمل الثانوية للبنين” في غزة.

أن نرسم حرّيتنا على كلّ جدار تهدّم

الواضح من الرسائل التي تبادلها معه أصدقاؤه أنه رفض مغادرة الشمال والنزوح وعندما سأله صديقه قبل نهاية الهدنة: “هل جئت إلى الجنوب”، أجابه: “لا لِسّا صامدين”. وهذه كانت آخر رسالة منه لصديقه عماد منذر الذي نشر صورة المحادثة على صفحته.

هنا، آخر ما نشره نور الدين على صفحته الشخصية على فيسبوك. :

مساء الخير أيّها العالم.

انقطعت الاتصالات والإنترنت ليلة البارحة، وما اعتبرته في إحدى المرات مستحيلًا صار واقعًا فجأة ولكن بظروف أُخرى، فساعي البريد لن يستطيع القدوم في ظل هذا القصف والدمار، كما أن جرائده لن تحمل سوى نفس الخبر كل يوم: “إن غزة تُباد. والحياة تغيب عنها كل يوم دون أن تشرق في اليوم التالي”، وربما خبر موتي سيصدر في النسخة القادمة…

هذا ما طرأ في بالي لحظة انقطاع الاتصالات والإنترنت، ومعها انقطعنا عن العالم، وانقطع العالم عن معرفة أخبارنا، وازدادت حدّة القصف لنضع أيدينا على قلوبنا، لأن ما نخافه ها هو يقترب، سنموت بصمت دون أن يعرف عنّا العالم شيئًا، حتى أننا لن نستطيع الصراخ ولا توثيق لحظاتنا، أو كلماتنا الأخيرة.

لستُ رقماً وأرفض أن يكون خبر موتي عابراً

فأنا أعيش في حيّ صغير يسمى حيّ الشجاعية، وهو حيٌّ يقع على الحدود الشرقية لمدينة غزة، وفي كل ليلة لا تتوقف أصوات الانفجارات بأنواعها المختلفة ومن كل الاتجاهات، لذلك نحتضن بعضنا مع كل صوت ضخم يهز بيتنا وقلوبنا، ونحن نعلم أن واحداً من تلك الأصوات لن نسمعها لأنها ستكون قد انفجرت بنا.

ولهذا أكتب الآن، لربما تكون هذه رسالتي الأخيرة التي تجوب العالم الحر، وتطير مع حمام السلام، وتخبره أننا نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلًا، لكن في غزة تقطعت كل السبل والطرق، وصرنا نبعد عن الموت مسافة خبر عاجل أو تغريدة صغيرة.

حسنًا… سأبدأ.

أنا نور الدين عدنان حجّاج، كاتب فلسطيني، وعمري سبعة وعشرون عامًا ولي أحلام كثيرة.

أنا لستُ رقمًا وأرفض أن يكون خبر موتي عابرًا، دون أن تقولوا أني أحب الحياة، السعادة، الحرية، ضحكات الأطفال، البحر، القهوة، الكتابة، فيروز، وكل ما هو مُبهج.. قبل أن يختفي كل هذا بلحظة واحدة.

أحد أحلامي أن تجوب كتبي وكتاباتي العالم، أن يصير لقلمي أجنحة لا توقفها جوازاتُ سفر غير مختومة ولا فِيَز مرفوضة.
حلمٌ آخر .. أن يكون لي عائلة صغيرة، وأهدهد ابني الصغير الذي يشبهني بينما أخبره قصة ما قبل النوم.

ويظل حلمي الأكبر… أن يعم السلام بلادي، أن تشرق ضحكات الأطفال قبل الشمس، أن نزرع وردة في كل مكان سقطت فيه قنبلة، ونرسم حريتنا على كل جدار تهدم، أن تتركنا الحرب وشأننا؛ لنعيش أخيرًا حياتنا ولمرة وحيدة.

نور الدين حجّاج
28 تشرين الأول/ أكتوبر 2023
غزة – فلسطين

قام بعض أصدقاء نور الدين بنعيه على صفحاتهم، وهذه كلمات اثنين من أصدقائه:

“هذا صديقي الجميل الذي لم ألتقِ به على غير المودة والاحترام المتبادل، والعمل التنظيمي الفكري، واللقاءات الأدبية، والنقاشات السياسية المثمرة، وأكواب القهوة: الكاتب والروائي نور الدين حجّاج، الذي أعرفه جيدًا، وكثيرًا ما كنت أقول له إن لك من اسمك نصيباً. نور كان كذلك، اسمًا على مسمى، نورًا بكل شيء، بحديثه، وبثقافته العالية، وبتوجيهاته لمن يلجأ إليه ليستشيره بأمر ما. منذ بداية الأحداث وكلانا على تواصل مع الآخر، حتى عندما نزحت أنا وعائلتي من الحي الذي نسكنه معًا – حيّ الشجاعية –  في الوقت الذي بقي فيه نور وعائلته – ونحن على اتصال دائم إلى أن اشتدت الحرب وحمي وطيسها، وصار من الصعب جدًا التواصل لا عبر الإنترنت ولا عبر الاتصال الهاتفي. ولم يكن هناك طريق للذهاب والإياب، خصوصًا بعد تمركز مدرعات جيشهم في الطريق بين الشمال والجنوب حتى أصبح نور في غزة وأنا في الجنوب، والجيش يفصل بيننا.

كنت أطمئنّ عليه بين الحين والحين، أي كلّما سنحت لنا فرصة الاتصال بالإنترنت. كانت آخر مرة حادثته بها بعدما نشر على حسابه الشخصي في إنستغرام ستوري لنص قصير له! نص يشبه الرثاء، أو هو رثاؤه لذاته. تحدث فيه عن معاناتنا، وعن الإبادة التي نتعرض لها، وأنه ليس رقمًا ويرفض أن يكون خبر موته عابراً، دون أن يقال إنه يحب الحياة والحرية والكتب والبحر وضحكات الأطفال وفيروز.. وعن بعض أحلامه المتمثلة بعائلة صغيرة وأنه يطمح أن تجوب كتاباته العالم وأن يصير لقلمه أجنحة تطير من خلالها تلك الكتابات… ولكن حال الإرهابُ بين نور وبين تلك الأمنيات والأحلام.

رحل نور اليوم، وحلّقت معه أحلامه وطموحاته إلى السماء عبر أجنحتها الأبدية ليمضي شهيدًا تاركًا خلفه كل من عرفه يتألم ويموت قهرًا على هذا الفراق المبكر”.

من صديقه: أمجد عيّا 
“استشهد الصديق الكاتب المهذب نور الدين حجّاج، كان مفعماً بالأسئلة، قال ذات مرّة: “لديّ ثأر مع الأسئلة بشكلٍ عام، وأحاول قتل ما أستطيع منها”، أمّا وبعد أن استشهد، فحتمًا قد وجد إجاباتِ أسئلته، وتركنا نحنُ الحيارى نجأر بأسئلة، لن تنتهي. كان نور كتلة طموح، ولم يترك سبيلاً لليأس كي يفتك به. مارسَ كلّ ما أحب بتفانٍ وجهد. كان كاتبًا شغوفًا، ومعلّمًا خلوقًا، مُحباً للجميع. الرحمة والسلام لروحك يا نور.

– العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة