“الجهل” عن معرفة

إبراهيم جابر إبراهيم

نحن لا نتغير.

كلما قرأنا أكثر أو نضجنا أو اختبرنا ثقافتنا في قراءة ومنازلة ثقافات جديدة، تعمّقت معرفتنا. هذا صحيح. لكننا لا نتغير.
كلما واجهنا النفسَ بالنفس رأينا ما هو أوسع وأجلى. كلما قدحنا فكرةً بفكرة وحجراً بحجر اقتحمنا مكاناً جديداً، وصعدنا خطوة للأعلى.
لكننا، في الحقيقة، لا نتغيَّر.
تلك الخلطة السحرية الغامضة التي صنعت كل واحدٍ منّا على نحوه الخاص لا تتغير.
كيمياؤنا الشخصية هي معادلة معقدة لا تتبدّل بالمرّة.
نقرأ، نتعلم، ننضج، نزداد معرفة وتجربة، نرتاد آفاقاً ونضيء مجاهل شاسعة لنا وللآخرين. لكننا لا نتغير.
ثمة طباعنا. بصمتنا في الحياة. تلك التي تدل علينا كرائحتنا. هل تتغير الرائحة؟
نحن لا نتغير.
كل ما هنالك أننا حين نكبر، وننضج، ونقرأ جيداً.. نجد “أسماء علمية” لأمراضنا النفسية وطباعنا السيئة.
ونكفّ عن التعامل معها بخجل!
وتصبح لدينا الجرأة كي نقدمها للناس بطريقة مثقفة ومتعالية!
ونزعم أنها “أمراض مهمّة” مرّت بتجارب نظرية ومعملية لفلاسفة مهمّين. ولم تعد مجرد “طباعنا” البائسة التي ولدتها ظروفنا وتربيتنا وتعليمنا وجيناتنا المصابة بأمراض صغيرة ولكنها كثيرة وتتفشى مثل القمل.
نحن لا نتغير.
لكننا نصاب بالمعرفة المفاجئة، ونجد تفسيرات رصينة وأكاديمية لما كنّا نظنه عيباً شخصياً، فنهدأ قليلاً.. ونلتقط أنفاسنا، ثم نعود للمواصلة ولكن بشجاعة وصلافة أكبر!
النضج ليس دائماً يقودنا للتوقف عن عيوبنا، بل يجعلنا نمارسها بشكلٍ “أنضج”.
أقصد المعرفة السالبة التي تعطينا مبرراً لما نفعل. ولا تعطينا مبررا أو معرفة كافية للتوقف عما نفعل!
نقرأ جيداً فنصبح قادرين على “تثقيف” عيوبنا.
نصير محتالين أذكياء نضع لنقصنا وترهاتنا أسماء علمية و”طبّية” وندّعي أنها “متلازمة” استغرقت من العلماء الكثير من الوقت والجهد لكشف خوارزميتها. وبالتالي ننقلها من خانة “الخطأ” لخانة “الميزة” التي تستحق الدفاع عنها!
نحن لا نتغير.
لكننا نصير نمارس “الجهل” عن معرفة.
و”بعين قويّة” قادرة على فلسفته وتقديمه برؤية علميةٍ ونقاشية.
هذه هي الثقافة السالبة. والوعي الشقي البائس.
وبديلاً عن جلوسه في قفص الإتهام يجلس الخطّاء متحدثاً في ندوةٍ ليضع تبريرات علمية مقنعة لما كان قبل قليل فعلاً عائباً.
نحن لا نتغير؛ حين نذهب إلى المعرفة بحثاً عن المبررات.
في مرور الوقت نتّضح، نتكشَّف، تبدو ندوبنا الصغيرة أكبر، لكننا لا نتغير.
الآخرون لا يتبدَّلون ولا يتغير منهم شيء، إنما أنت صرتَ ترى أوسع وأكثر.
وكلُّ من بدا لك قد تغيَّر، ما هو إلّا كشفك أنت.

مقالات ذات صلة