“ديكتاتورية الأقلية” ومحاذير الارتهان للشعبويين

أسامة أبو ارشيد

حرير- تثير إقالة رئيس مجلس النواب الأميركي، كيفين مكارثي، من منصبه، يوم الثلاثاء الماضي، مسألتين هامتين. الأولى، تتعلق، بما يمكن وصفها بـ”ديكتاتورية الأقلية”، والثانية، متعلقة بمحاذير ومخاطر محاولة استرضاء الشعبويين والمتطرّفين والغوغائيين. وكان مجلس النواب قد طرح الثقة بمكارثي في سابقة لم تحدُث في التاريخ السياسي الأميركي، وذلك بعد أن فعّل النائب اليميني المتطرّف، مات غيتس، أداة إجرائية في المجلس تُعرف باسم “اقتراح إخلاء”. غيتس هذا، كما مكارثي، ينتمي للحزب الجمهوري الذي يتمتّع بأغلبية ضئيلة في مجلس النواب، ولكنه اعتبر أن مكارثي قد نكث بالتعهّدات التي قطعها للجناح اليميني المتشدّد في الحزب بعدم التعاون مع الديمقراطيين في تمرير ميزانية فيدرالية لا تتضمّن تخفيضاتٍ كبيرة في الإنفاق الحكومي، بذريعة الحدّ من المديونية الأميركية التي تجاوزت 33 تريليون دولار. لكن، وتفادياً لإغلاق حكومي شامل يمسُّ حياة ملايين الأميركيين، وافق مكارثي على تمرير اتفاق موازنةٍ مؤقتٍ لتمويل الحكومة الفيدرالية حتى الـ17 من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وهو الأمر الذي ما كان ليتمَّ من دون أصوات الديمقراطيين، حيث صوّت 211 عضواً منهم، من أصل 212، لمصلحة التشريع، في حين صوّت 90 جمهورياً من أصل 222 ضده. استفز هذا الأمر الجناح اليميني المتطرّف في الحزب الجمهوري، المحسوب على الرئيس السابق، دونالد ترامب، وانتهى الأمر بطرح الثقة بمكارثي.

المفارقة هنا أن مكارثي وقع ضحية استماتته في استرضاء الأقلية المتشدّدة في حزبه ووضعه مصيره في أيديهم. وكان الجمهوريون قد فازوا، في الانتخابات النصفية، أواخر العام الماضي، بأغلبية ضئيلة في مجلس النواب لا تتجاوز أربعة مقاعد، رغم أن استطلاعات الرأي كانت ترشّحهم لفوز ساحق. وجعل هذا الأمر من مكارثي، زعيم هذه الأغلبية الجديدة، رهينة لخمسة أصوات فقط في حزبه ضمن مسعاه إلى أن يصبح رئيساً للمجلس. ولأن الجناح اليميني المتطرّف في الحزب الجمهوري لم يكن يخفي نفوره منه، فكان أن حسم أمره بعدم دعمه في طموحه ذاك، وهو ما اضطرّ مكارثي أن يخوض 15 جولة انتخابية، وكانت سابقة أخرى في التاريخ الأميركي، حينئذ، قبل أن يظفر برئاسة المجلس. لكن ذلك لم يكن ليتمَّ من دون تقديم تنازلاتٍ جوهريةٍ منه للجناح المتطرّف، من أهمها اثنان. الأول، أنه يحقّ لعضو واحد أن يقدّم اقتراحاً ملزماً لإقالة رئيس مجلس النواب، وحينها يجري تصويتٌ على ذلك. والثاني، أن لا يمرّر مكارثي أيَّ موازنة من دون موافقة أعضاء الجناح اليميني أولاً. وهكذا، وَقَّعَ مكارثي صكَّ إطاحته منذ اليوم الأول لتسلمه رئاسة مجلس النواب، والذي الأصل فيه أنه واحد من أقوى المناصب في الولايات المتحدة وأكثرها نفوذاً.

نعود هنا إلى ارتباط ما سبق بمسألتَي “ديكتاتورية الأقلية” وخطر استرضاء الشعبويين. لم يكن في وسع الديمقراطيين طرح الثقة بمكارثي، ذلك أنهم يحتاجون إلى 218 صوتاً، وهم لا يملكون إلا 212. صحيح أن أغلب الأصوات التي أنهت رئاسة مكارثي مجلس النواب جاءت منهم (208)، إلا أنها لم تكن كافية لولا تصويت ثمانية جمهوريين معهم، في حين صوّت 210 من النواب الجمهوريين لمصلحة رئيسهم وجدّدوا الثقة به. وغاب عن جلسة التصويت، لأسباب مختلفة، ثلاثة جمهوريين وأربعة ديمقراطيين، وهو ما سمح بإقصاء مكارثي بأغلبية 216 صوتاً مقابل 210. ولا ننسى هنا أن اقتراح طرح الثقة جاء من نائب جمهوري، لا ديمقراطي.

إذن، من أطاحوا مكارثي هم ثمانية فقط من نواب حزبه الـ222، وهو الأمر الذي أثار غضب البقية. لكن، الغالبية الجمهورية مذنبة أيضاً، فهي قبلت وأتاحت لتلك الأقلية الصغيرة أن تتحكّم بأجندة الحزب، إن لم يكن اختطافه، عبر تواطئها على مدى السنوات الماضية مع دونالد ترامب وصمتها على تصرّفاته الشاذّة. مثلاً، بعد اقتحام أنصاره الكونغرس، مطلع عام 2021، وبتحريض مباشر منه احتجاجاً على خسارته الانتخابات الرئاسية، لم يصوّت من أصل 211 نائباً منهم، حينها، إلا عشرة على عزله، في حين امتنع أربعة عن التصويت، وصوّت 197 ضد ذلك. مكارثي كان أحد الذين صوّتوا بـ”لا”، رغم أنه كان حمّل ترامب، قبل ذلك بأيام، مسؤولية اقتحام الكونغرس. ولم تمض أسابيع قليلة حتى كان يحج إلى مقر إقامته في فلوريدا، المعروف بـ”مارالاغو”، طالباً صفحه ودعمه.

كان مكارثي يعلم أن غالبية الأميركيين لا تؤيد ترامب وأفعاله، ولكن اهتمامه كان منصبّاً على الحفاظ على منصبه زعيماً للأقلية الجمهورية، حينئذ، في مجلس النواب، أملاً في أن يصبح يوماً رئيساً له. لكن، سيكون لهذا ثمن باهظ عليه، إذ إن ترامب، الذي يواجه دعاوى قانونية وفضائح سياسية ومالية وأخلاقية، أصر على أن يدعم مرشّحين شعبويين محسوبين عليه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، عام 2022. وفعلاً فاز عدد منهم على مرشّحين أكثر اعتدالاً ويحظون بتأييد أوسع من الناخبين الأميركيين، فكانت النتيجة أن انتهى الجمهوريون بأغلبية ضئيلة جداً في مجلس النواب، ولم يظفروا بمجلس الشيوخ، في الانتخابات النصفية. أما ثالثة الأثافي فهي أن الشعبويين الذين دعمهم ترامب وتمكّن بعضٌ منهم من الفوز في الانتخابات النصفية كانوا هم أنفسهم من جعلوا الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب غير فاعلة، قبل أن يعصفوا بها عبر التسبب في إقالة مكارثي.

ورغم أن بعض مآخذ الجناح اليميني المتشدّد في مجلس النواب على الميزانية الأميركية سليمة، إلا أن ذلك لا يترجم إلى مقترحاتٍ عملية بديلة. مثلاً، الإنفاق الحكومي منفلتٌ فعلاً من عقاله، والأمر لا يتعلق فقط بالمديونية الأميركية التي تجاوزت 33 تريليون دولار، بل وكذلك بعجز الميزانية، والذي وصل هذا العام وحده إلى 1.5 تريليون دولار. هذا يعني أن الولايات المتحدة مضطرّة إلى الاستدانة دائماً، وهو أمر غير قابل للاستمرار. ورغم هذا الواقع البائس أميركياً، طلبت إدارة بايدن من الكونغرس أن يقرّ حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا، حتى نهاية هذا العام، بقيمة 24 مليار دولار، وهي غير الـ 75 مليار التي قدمتها الولايات المتحدة لذلك البلد، منذ بدء الغزو الروسي في شهر فبراير/ شباط 2022. العام القادم أيضاً، وبدل البحث عن حل سلمي للصراع، ستطلب إدارة بايدن عشرات المليارات من الدولارات لتمويل الحرب في أوكرانيا وتسعيرها بهدف استنزاف روسيا، متغاضية عن أن الملايين من الأميركيين يعانون من الفقر والتضخّم، ولا يكادون يجدون قوت يومهم. دع عنك، طبعاً، مضاعفة الدّيْن الوطني وعجز الميزانية. لكن المشكلة أن الجناح اليميني المتشدّد في الحزب الجمهوري لا يقدّم بدائل وحلولاً، وإنما يتبنّى معارضة غوغائية بشعاراتٍ شعبوية، وهو ما يهدّد بحدوث أزمة أخطر إن لم تُقَرّ ميزانية ما تبقي العجلة الاقتصادية والحياتية مستمرّة في الولايات المتحدة. الأخطر أن مؤسّسة الحزب الجمهوري عاجزة عن اجتراح خيارات عملية هي أيضاً، إذ إنها مرتهنة لنزوات ترامب ورغباته، والتي يتبنّاها أتباعه في الكونغرس. وستكون واشنطن على موعدٍ مع أزمة أخرى بعد أقلّ من 40 يوماً عندما تنتهي صلاحية اتفاق الموازنة المؤقت، ويكون رئيس مجلس النواب القادم أضعف من مكارثي وأكثر ارتهاناً منه لأقلية شعبوية متطرّفة.

ختاماً، وبعيداً عن السياق الأميركي، السماح لأقلية ما بالتسلّط وتمكينها، ومحاباة الشعبويين والفوضويين ومحاولة استرضائهم وصفة للفشل، إن لم تكن وصفة لكارثة.

مقالات ذات صلة