صدام الثورات في سوريا

بكر صدقي

حرير- منذ اندلاعها في العام 2011 ظل مفهوم الثورة لدى السوريين ذا مضمون غامض لا يتجاوز فكرة التخلص من نظام الأسد الذي جثم على صدر البلاد لأكثر من نصف قرن. فكانت «ثورة على الظلم» بما يعني ذلك من تطلب للعدل، وهذا مفهوم شديد العمومية والغموض فسره السوريون بمعان مختلفة، فثمة مظالم طبقية وأخرى فئوية وثالثة ثقافية ورابعة دينية، إلخ. هذا ما يفسر كون الثورة، بلا تمييز، لم تحظ بإجماع وطني كما قد يفترض بثورة ضد طغمة نخبوية حولت الجمهورية إلى نظام سلالي، فخاصمتها فئات اجتماعية واسعة وظلت أخرى على الحياد، فيما تحركت فئات أخرى بصورة مستقلة. وهكذا حدث التمايز الكبير الأول بين معارضي النظام ومؤيديه. فإذا تركنا المؤيدين جانباً وركزنا الاهتمام على المعارضة لرأينا ثلاث مجموعات كبيرة تزعم احتكارها للصفة الثورية فيما تنكرها على المجموعات الأخرى التي تطالبها، فوق ذلك، بالتماثل معها.

فهناك أولاً تيار ديمقراطي تدور رؤيته لسورياه حول الدولة الوطنية (بمفهوم مركزي) والمواطنة المتساوية، بعيداً عن فكرة «المكوّنات» الإثنية والدينية والطائفية والثقافية والجهوية، مع غموض بشأن النموذج الاقتصادي الذي قد يكون ليبرالياً مقنناً أو مشروطاً بصفة «الاجتماعي». الثورة لدى هذا التيار هي ثورة ديمقراطية تحررية مع حياد الدولة تجاه الأديان والمذاهب، وإقرار متفاوت بحقوق ثقافية للأقليات الإثنية، وبخاصة الكرد.

ثم لدينا التيار الإسلامي بتلويناته المختلفة، ويتمحور تصوره بشأن سورياه حول نظام قائم قبل كل شيء على حكم الشريعة الإسلامية، مع سيطرة سنية على الدولة واعتراف متفاوت بحقوق للأقليات الدينية والإثنية، وعداء صريح للأقليات المذهبية الناشزة عن المتن السني.

وشكّل الكرد تياراً ثالثاً اتسم تحركهم أثناء الثورة بالحذر واتخاذ مسافة واحدة من السلطة والمعارضة. وأتاحت ديناميات الصراع لأحد الأحزاب السياسية الكردية، الاتحاد الديمقراطي، أن يتصدر هذا التيار من خلال التسلح مبكراً والسيطرة على مناطق واسعة في شمال سوريا وشمالها الشرقي حيث غالبية سكانية كردية، ازدادت اتساعاً بعد العام 2014 أثناء الصراع الدموي مع تنظيم الدولة الإسلامية، فسيطرت على مناطق ذات غالبية عربية أو أخرى مختلطة تحت مظلة عريضة بعنوان «قوات سوريا الديمقراطية». الواقع أن هذا التيار لم يقاتل النظام ولا رفع شعار إسقاطه يوماً، باستثناء احتكاكات موضعية قليلة على مناطق النفوذ، لكنه شكّل رأس حربة في الحرب على تنظيم الدولة «داعش».

من هذا المنظور يرفض كثير من التشكيلات المعارضة اعتباره قوة معارضة لنظام الأسد، بل يعتبره البعض حليفاً له. غير أن سياسته العامة اتسمت بالاستقلالية عن كلا النظام والمعارضة معاً فاستحق وصفه بالتيار الثالث الذي له برنامجه الخاص المتمثل في الدفاع عن حقوق فئوية للمكون الكردي تتراوح بين الإدارة الذاتية للمناطق ذات الغالبية الكردية والنظام الفيدرالي بالنسبة لمجموعة الأحزاب التقليدية الكردية خارج مظلة «قسد».

بناء على خريطة القوى هذه يمكننا الآن الحديث عن ثلاثة مفاهيم مختلفة للثورة: الأولى ديمقراطية، والثانية إسلامية، والثالثة كردية. ويعتبر قسم وازن من التيار الديمقراطي أن التيار الإسلامي هو «ثورة مضادة» قدمت، بظهورها وتسلحها، خدمة للنظام فأطالت في عمره، وأن التيار الكردي هو تيار انفصالي قدم خدمة أخرى للنظام بوقوفه على الحياد وعدم انضمامه لـ«الثورة» عليه. في حين يعتبر الإسلاميون بغالبيتهم أن التيار الديمقراطي لا وزن له في المجتمع فضلاً عن اشتراكه مع النظام في قيم أساسية كعلمانية الدولة وعروبتها، فضلاً عن أن قسماً مهماً منهم (التيار السلفي الجهادي) يفتي بأن «الديمقراطية كفر». أما تجاه التيار الكردي فقد طفا على السطح الصراع الدموي بين قسد وتنظيم الدولة، إضافة إلى نفورهم المبدئي من أفكار كالإدارة الذاتية أو الفيدرالية أو الانفصال، وطبعاً علمانية التيار الكردي بصورة عامة.

لقد أدى طول أمد الصراع لنحو 14 عاماً إلى تصلب هذه التناقضات بين التيارات الثلاثة ولم تفلح المحاولات القليلة للتقريب فيما بينها في رأب الصدوع، فيما انقسمت سوريا عملياً بين مناطق ثلاث: قسم للنظام، وآخر للمعارضة الإسلامية، وثالث لقسد، إضافة إلى تدخل مسلح لدول بأجندات متباينة، إيران وروسيا والولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل. في حين كاد التيار الديمقراطي يتلاشى لأنه رفض التسلح بصورة مبدئية في الوقت الذي كان امتلاك السلاح فيه هو معيار القوة والنفوذ، ولا يمكن تقدير حجم نفوذه الاجتماعي المحتمل لكن فاعليته ضعيفة جداً في ظل بروز التناقضات بين الهويات الأهلية.

ما حدث، في أعقاب سقوط النظام في أوائل كانون الأول 2024، هو أن التيار الإسلامي ممثلاً بهيئة تحرير الشام وفصائل إسلامية حليفة هو الذي ملأ فراغ السلطة ولاقى قبولاً عربياً ـ إقليمياً ـ دولياً واسعاً. وكان الخاسر الأكبر من هذا التطور، إذا استثنينا النظام، هو التيار الديمقراطي الذي يتشكل عملياً من أفراد متذررين وقوى سياسية متهالكة استنفدت صلاحيتها الزمنية لأسباب لا يتسع المجال لذكرها هنا. أما التيار الكردي (قسد بصورة رئيسية) فقد دخل مأزقاً من نوع آخر، وإن كان إلى الآن يحتفظ بسلاحه ومناطق سيطرته. ويتمثل هذا المأزق في الضغوط الأمريكية والتركية عليه لدفعه للاندماج في الوضع القائم في ظل سلطة هيئة تحرير الشام التي جنحت نحو رفض كل المطالب الفئوية للكرد من إدارة ذاتية أو الدخول تحت مظلة وزارة دفاع السلطة ككتلة واحدة، وحتى عدم ضمان الحصول على حقوق ثقافية إلا بشروط السلطة.

بيد أن ما سفك من دم في مناطق كل من العلويين والدروز، في الأشهر الماضية، قد ترك في الظل خسارات التيارين الديمقراطي والكردي، ليضع مصير البلاد في مهب الريح، وبات تفكك البلاد على أساس مذهبي وإثني خطراً منظوراً.

الواقع أن الفئة الحاكمة اليوم، هيئة تحرير الشام، هي أيضاً في أزمة عميقة يمكن وصفها بـ«ورطة امتلاك الدولة» وتتمثل في فشلها في التكيف مع متطلبات هذه الوضعية غير المألوفة وغير المريحة. وإذا كانت «الهيئة» قد أبدت مرونة لافتة مع القسم الخارجي من هذه المتطلبات، أعني به ما يتعلق بإرضاء الدول الأخرى وبخاصة إسرائيل والولايات المتحدة، فهي شديدة التصلب إزاء قسمها الداخلي المتعلق بالمجتمع أفراداً ومكونات أهلية على السواء. صحيح أن هذا الوضع يشكل خطراً شديداً على السلم الأهلي، ناهيكم عن الحقوق والحريات العامة والتوازنات الاجتماعية، لكنه خطر أيضاً على مصلحة المجموعة الحاكمة في إطالة أمد حكمها. فشل التوفيق بين المفاهيم الثلاثة للثورة السورية في السنوات السابقة، فهل تشكل مجازر الساحل والجنوب حافزاً لإيقاظ العقل والتقريب فيما بينها بتدوير الزوايا الحادة؟

مقالات ذات صلة