اتفاقية الغاز مع العدو… التبعات والتناقضات

حرير –

في مؤتمر صحفيّ عقد يوم الأربعاء 3 تموز 2019، كشف النائب صالح العرموطي[1] عن النصّ المُترجم الكامل لاتفاقيّة استيراد الغاز من «إسرائيل»،[2] والتي وقّعتها شركة الكهرباء الوطنيّة، وحجبتها الحكومة عن المواطنين باعتبارها وثيقة محميّة وسريّة[3] منذ إعلان رسالة النوايا المتعلّقة بها في شهر أيلول من عام 2014، وبقيت مخفيّة في أدراج مجلس النوّاب بدعاوى مختلفة منذ شهر آذار 2017،[4] بعد أن سلّمت الحكومة المجلس نسخة منها.

تجدون أدناه استعراضًا لأبرز النّقاط التي تضمّنتها نصوص هذه الاتفاقيّة، وتبعاتها على الأردن، وتناقضها مع الخطاب الذي قدّمته السّلطة حولها طوال كلّ تلك السّنوات، بما يعني أن الحكومة ضلّلت مواطنيها فعليًّا وقدّمت لهم معلومات خاطئة عن سبق عمد وإصرار.

لن تدخل هذه المقالة في المعلومات العامّة التي باتت معروفة، مثل مدّة الاتفاقيّة (15 عامًا أو استيراد كامل المدة المتعاقد عليها)، أو القيمة الإجمالية التقديرية للاتفاقيّة (10 مليار دولار)، أو الكميّة المتعاقد على استيرادها (ثلاثمئة ألف مليون وحدة حرارية بريطانية يوميًّا)، ولا في التفاصيل الفنيّة الدقيقة التي ستحتاج إلى متخصّصين للنظر فيها (نوعيّة الغاز، طرق فحصه، إجراءات التسليم، التعديل وترصيد الكميّات غير المُسلّمة، الخ)، بل ستستعرض البنود الرئيسيّة ذات الأهميّة الاقتصاديّة والسياسيّة والاستراتيجيّة الضروريّة للجمهور العام، وستخلص إلى خاتمة تبحث إمكانيّة إلغاء الاتفاقيّة، مع ملاحظة أنني سأورد بعضًا من الاقتباسات الحرفيّة الهامّة من نصوصها المترجمة داخل المقالة، أما بقيّة المواد المشار إليها فموجودة في الملحق الخاص بعدها.

التورّط الحكوميّ الكامل والمُركّب في صفقة الغاز مع «إسرائيل»

كثيرًا ما تحدّثت مصادر حكوميّة مختلفة، من مستوى رؤساء وزراء فما دون، عن أن اتفاقيّة استيراد الغاز من «إسرائيل» لا علاقة للحكومة الأردنيّة بها، وأنّها اتفاقيّة تجاريّة معقودة بين «شركتين»،[5] وكانت هذه هي الذريعة الأساسيّة التي من خلالها رفضت الحكومات المختلفة المتورّطة في الاتفاقيّة عرضها على مجلس النوّاب[6] بحسب المقتضى الدستوري الذي تنص عليه الفقرة 2 من المادّة 33 من الدستور الأردني.[7]

تبيّن نصوص الاتفاقيّة أن الحكومة الأردنيّة هي جزء أساسيّ لا يتجزأ منها، ومتورّطة بها على مستوىً عميق ومُركّب، ويتضح ذلك في خمسة محاور. فأولًا، الحكومة الأردنيّة هي التي تمتلك شركة الكهرباء الوطنيّة بشكل كامل، وهذا واضح ومنصوص عليه في مقدّمة الاتفاقية التي تورد أسماء الأطراف المتعاقدة فيها.

ثانيًا، الحكومة الأردنيّة هي أيضًا كفيل شركة الكهرباء الوطنيّة التي تمتلكها بالكامل، تدفع عنها أي مبالغ مترتّبة عليها وقصّرت في دفعها دون أي شروط (فقرة 1.1.22)، وتقدّم كفالة شاملة بهذا المعنى يقرّها مجلس الوزراء، ويوقّعها (مفوّضًا عنه) وزير الماليّة (الجدول 3 – نموذج كفالة المشتري – نموذج خطاب التعهّد الملحق بالاتّفاقيّة).

ثالثًا، هناك شرط مُسبق يقضي بإبرام الحكومة الأردنيّة ونظيرتها الإسرائيليّة اتفاقيّة ثنائيّة أخرى إضافيّة تتعلّق بتدفّق الغاز بين البلدين، وتتضمّن المراسلات السّابقة بين وزارتي الطاقة في الأردن و«إسرائيل»، واسم هذا الشرط دالّ عليه بشكل واضح: شرط G2G، أي government to government: حكومة لِحكومة (فصل 2. الشروط المسبقة، فقرة 2.1.3)، ما يعني أنّ اتفاقية استيراد الغاز تتضمّن -حُكمًا- من بين بنودها، وكشرطٍ مسبق لنفاذها، اتفاقيّة أخرى تُعقد بين الحكومتين الأردنيّة والصهيونيّة.

رابعًا، هناك دور خاص لوزارة الطاقة والثروة المعدنية تنصّ عليه الاتفاقية (فقرة 4.4)، يتعلّق بتلقّيها الإشعارات بالنيابة عن الحكومة الأردنية، والتصرّف، والدّفع، ومتابعة ومعالجة أي تقصير قد ينشأ عن شركة الكهرباء الوطنيّة.

وأخيرًا، شركة الكهرباء الوطنيّة المملوكة بالكامل للحكومة الأردنيّة لا تستطيع التنازل عن حقوقها والتزاماتها في هذه الاتفاقيّة إلا لهيئة عامّة رسميّة (أي حكوميّة)، أو شركة أخرى تابعة لـ، أو مملوكة من قبل، الحكومة الأردنيّة حصريًّا (فقرة 18.3.1).

الحكومة الأميركيّة تضمن وتكفل التزامات شركة الكهرباء الوطنيّة

لا تكتفي الاتفاقيّة بالضمانات المركّبة للحكومة الأردنيّة لسداد التزامات شركة الكهرباء الوطنيّة، بل تتضمّن بندًا يتلقى بموجبه البائع ضمانات من الحكومة الأميركيّة فوق كلّ تلك الضّمانات، الأمر الذي قد يعني أنّه وفي حال تخلّف الحكومة الأردنيّة عن السّداد أو تنفيذ الاتفاقيّة، قد تُحوّل الحكومة الأميركيّة جزءًا من مساعداتها الماليّة الخاصّة بالأردن إلى «إسرائيل» لسداد تبعات الاتّفاقيّة.

تمّ توقيع الاتفاقيّة مع شركة وسيطة مسجّلة في جزر الكيمان ومقرّها الرئيسي في «إسرائيل» وتستأجر حقل الغاز من الحكومة الإسرائيلية

ظلّت الحكومة الأردنيّة مصرّة طوال الوقت أن الاتفاقيّة قد وقّعت مع شركة نوبل إنرجي الأميركيّة،[8] وشدّدت طوال الوقت على هذه التفصيلة لتضليل المواطنين عن مصدر الغاز الخاضع لسيطرة «إسرائيل»، ونفي أي «علاقة إسرائيليّة» بالغاز،[9] لتكشف الاتّفاقيّة ما نشرته الحملة الوطنيّة الأردنيّة لإسقاط اتّفاقيّة الغاز مع الكيان الصهيوني (غاز العدو احتلال) مرارًا من خلال معلوماتها المستقاة من إفصاحات شركتي نوبل إنرجي الأميركيّة وديليك الإسرائيليّة،[10] أن الاتفاقيّة قد وقّعت مع شركة وسيطة اسمها NBL Jordan Marketing Limited، مسجّلة في جزر الكيمان (مقدّمة الاتفاقيّة)، ومملوكة من قبل الشّركاء في حقل ليفاياثان المشاطئ لفلسطين المُحتلة، وربّما آخرين لا يمكن معرفتهم، نظرًا لتسجيل الشركة في جزر الكيمان، وهي إحدى الملاذات الضريبيّة التي يستخدمها المتورّطون في غسيل الأموال والتهرّب الضريبيّ، كما تفصح الاتفاقيّة عن هويّة الشركاء في حقل ليفاياثان (فقرة 1.1.78)، وهم: نوبل إنرجي الأميركيّة بنسبة 39.66%، ديليلك للحفريات 22.67%، آفنر للاستكشاف النفطي 22.67% (وكلا الشركتين مملوكتان لمجموعة ديليك الإسرائيلية)، راشيو للتنقيب عن النفط 15% (وهي شركة إسرائيليّة)، بمعنى أن حصّة الشركات الإسرائيلية في الحقل تبلغ 60.34%، فيما تملك مجموعة ديليك الإسرائيلية الحصّة الأكبر في الحقل بنسبة 45.34%، كماكشفت الاتفاقيّة أن شركاء حقل ليفاياثان يستأجرون الحقول من الحكومة الإسرائيليّة بموجب عقود إيجار(فقرة 1.1.76).

شركاء حقل ليفاياثان معفون من أي تبعة ومسؤولية

مقابل الضمانات الهائلة المُترتّبة على «المشتري» (شركة الكهرباء الوطنيّة)، والمتمثّلة بالكفالات العميقة والمركّبة المتعلّقة بربطه الوثيق بالحكومة الأردنيّة (مالكة الشركة)، وصولًا إلى كفالة الحكومة الأميركيّة نفسها، نجد أن الاتّفاقيّة تعفي شركاء حقل ليفاياثان بالكامل من أي التزام أو مسؤولية (فقرة 19.4.15)، فيما تُجهد نصوص الاتفاقيّة نفسها إلى حدّ كبير لتثبيت أن «البائع» (NBL الأردن للتسويق المحدودة، المسجلة في جزر الكايمان) هو إطار منفصل تمامًا عن مالكيه (الشّركاء في حقل ليفاياثان: نوبل إنرجي الأميركية، ومجموعة ديليك، وراشيو الاسرائيليّتان)، وأن هؤلاء المالكين ذوات مستقلّة قانونيًّا عن «البائع» (المملوك لهم) وأنّهم ليسوا مسؤولين عن أفعاله أو تقصيره (فقرة 1.1.109 (هـ)، فقرة 4.2.5، فقرة 4.5، فقرة 6.1.2 (أ)).

إعاقة وردع تطوير إنتاج الغاز في الأردن مقابل إعطاء الأولويّة لاستيراد الغاز من «إسرائيل»

تتضمّن الاتفاقيّة بندًا خاصًّا (فقرة 7.9) مُصمّمًا لتثبيط وردع تطوير مصادر الغاز المحليّة في الأردن من خلال وضع اشتراطات تعيق تخفيض الكميّات المستوردة من «إسرائيل» في حال تم إنتاج غاز طبيعي في الأردن، الأمر الذي يجعل من جدوى استخراج الغاز محليًّا شبه معدوم، ويثبّط من جهود تطوير مصادر الغاز الأردنيّة السياديّة مقابل الاعتماد على استيراد الغاز من «إسرائيل».

إدخال الغاز المستورد من «إسرائيل» إلى خط الغاز العربي في سياق إدماج إقليمي

كما صرنا نعرف من خط مسار أنبوب الغاز، سيشبك الأنبوب القادم من حقل ليفاياثان من الغرب إلى الشرق، مع خط الغاز العربي القادم جنوبًا من مصر وميناء الغاز المسال في العقبة، والمتّجه شمالًا إلى سوريا ولبنان،[11] وتورد الاتفاقيّة ما يفيد باختلاط الغاز من هذين المصدرين المختلفين بعضهما ببعض (فقرة 5.2)، وما يفيد بنقل وشراء وبيع الغاز الطبيعي من قبل «البائع» من مصادر أخرى غير حقل ليفاياثان (فقرة 5.3.1)، وجواز استخدام منشآت نقل الغاز في الأردن و«إسرائيل» لنقل وشراء وبيع الغاز الطبيعي من مصادر أخرى غير حقل ليفاياثان (فقرة 5.3.2)، مما يعني -عمليًّا- تحويل الأردن إلى جسر وممرّ يتمّ من خلاله تصدير الغاز المستورد من «إسرائيل»، ومن مصادر مختلفة قد تتضمّن حقولًا أخرى غير حقل ليفاياثان، إلى دول عربيّة أخرى، مخلوطًا بالغاز المصريّ أو أي غاز آخر نستورده في الأردن من السوق العالمي من خلال ميناء الغاز المسال، ودون إمكانية للتمييز أو الفصل، الأمر الذي يعني إدخال «إسرائيل» عضويًّا (باعتبارها قوّة طاقة إقليميّة، ومصدّرةً للغاز)، وبالحيلة والتّضليل، إلى بقيّة الدول العربيّة التي يمكن أن تستفيد من خطّ الغاز العربي وتشبك عليه.

سعر الغاز المستورد من «إسرائيل» أعلى من سعر السّوق العالمي للغاز المُسال

يتضمن الفصل 11 من الاتفاقية معادلة احتساب سعر الغاز المستورد من «إسرائيل»، وتتكوّن من سعر أساسي مرتبط بسعر خام برنت هو الجزء الأكبر والأساسي من المعادلة، ويتراوح بتصاعد هرميّ بين 5.65 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية (م.و.ح.ب) في حال كان سعر خام برنت يساوي أو أقل من 30 دولار، وصولًا إلى 11 دولار لكل م.و.ح.ب في حال كان سعر خام برنت يساوي أو أكثر من 320 دولار. يضاف إلى السعر الأساسيّ رسوم تسويق ورسم تابع توضّح آلية احتسابهما في الاتفاقيّة. إذًا، وباختصار:

سعر الغاز = السعر الأساسي + رسوم التسويق + رسم تابع

لو افترضنا جدلًا (للتسهيل) بأن رسوم التسويق والرسم التابع تساويان صفرًا، فإن أقل سعر ممكن للغاز المستورد من «إسرائيل» سيكون 5.65 دولار لكل م.و.ح.ب، وهذا السّعر هو أعلى من السّعر العالمي للبيع الآني والمتوفّر في السوق لتعاقدات الغاز المُسال[12]، والذي يستورد منه الأردن من خلال ميناء الغاز المُسال في العقبة كل احتياجاته ويزيد؛ وهو نفس السّعر الذي رفضته شركة الكهرباء الإسرائيلية في شهر نيسان من عام 2016، أي قبل توقيع هذه الاتفاقية بخمسة أشهر، مفضّلة استيراد الغاز المسال من السوق العالمي في ذلك الوقت، من خلال شركة بريتش بيتروليوم، بسعر 4.9 دولار لكل م.و.ح.ب، بدلًا من استخدام الغاز الذي تنتجه «إسرائيل» من حقل تامار القريب من ليفاياثان.[13]

الأردن مُجبر على مساعدة شركاء حقل ليفاياثان للحصول على قروض لإنشاء الحقل واستخراج الغاز

تطوير حقل غاز يحتاج إلى توفّر زبون سلفًا، لأن الغاز في حالته الغازيّة يجب استخدامه فورًا، ولا يمكن تخزينه إلا عند تحويله إلى غاز مُسال بمنشآت خاصة لا تمتلكها «إسرائيل»؛ إضافة إلى أن كميّات الغاز الموجودة في حقل ليفاياثان أكبر بكثير من إمكانية استهلاكها محليًّا داخل «إسرائيل»[14]، إذًا: كان لا بدّ من وجود (أو إيجاد) زبون لهذا الغاز، وهنا جاء دور أصحاب القرار في الأردن بتوفيرهم «سوقًا» ليتمكن الصهاينة من استخراج الغاز من الأساس، وتصديره واستخدامه.

من جانب آخر، يستدعي بناء منشآت ومنصّات استخراج الغاز من البحر، تكاليف يقترضها مطوّرو حقول الغاز من البنوك، والاتفاقيّة في هذا الجانب تجبر «المشتري» على تقديم المستندات والوثائق المطلوبة التي ستساعد شركاء حقل ليفاياثان على تأمين التمويل اللازم للبدء بالأعمال الإنشائية (فقرة 18.4.4)، أو إبرام اتفاقيّات مباشرة مع هؤلاء المقرضين (فقرة 18.4.3).

تحصّن الاتفاقيّة نفسها ضد الرأي العام، والمواطنين الذين سيتأثرون مباشرة بنتائجها، باشتراط السريّة

رغم أن هذه الاتفاقيّة تمسّ بشكل واضح بأمن وسيادة ومستقبل الأردن، وبأموال دافعي الضرائب الأردنيين، ومصالح المواطنين العامّة والخاصّة، إلا أنها تحصّن نفسها بالكامل عبر فصل خاص (هو الفصل 9) يشترط السريّة، ولغاية خمس سنوات بعد انتهائها (أي بعد عشرين عامًا -تقريبًا- من اليوم).

شرط جزائي غير متساوٍ بين الطرفين

ترتّب الاتفاقيّة في الفقرة 21.5 حقًّا للبائع (شركاء حقل ليفاياثان) بأن ينهي الاتفاقية في حال تقصير المشتري (شركة الكهرباء الوطنيّة)، مرتّبة له مبالغ ماليّة مُحددة: مليار و500 مليون دولار في حال كان الإنهاء خلال السنوات الخمس الأولى من عمر الاتفاقية، و800 مليون دولار في حال كان الإنهاء بعد السنة الخامسة وقبل السنة العاشرة، و400 مليون دولار في حال كان الإنهاء بعد السنة العاشرة.

ورغم أن الاتفاقية في الفقرة 21.6 ترتّب نفس الحقّ للمشتري في حال تقصير البائع، إلا أن مبالغ الغرامات أقلّ: مليار و200 مليون دولار في حال كان الإنهاء خلال السنوات الخمس الأولى من عمر الاتفاقية، و600 مليون دولار في حال كان الإنهاء بعد السنة الخامسة وقبل السنة العاشرة، و400 مليون دولار في حال كان الإنهاء بعد السنة العاشرة.

مواد مخلّة بالسيادة ومهينة للكرامة الوطنيّة

هناك العديد من المواد المتضمّنة في الاتفاقيّة تخل بالسيادة وتهين الكرامة الوطنيّة، منها أن العملات المذكورة والمعتمدة في الاتفاقيّة هي الدولار الأميركي والشيكل الإسرائيلي بحسب سعر الصّرف المنشور من قبل بنك إسرائيل (فقرة 1.1.37) دون أي ذكر للدينار الأردني أو البنك المركزي الأردني؛ ومنها أن تعريفات الوقت والأيام محددة بالتوقيت المحلّي الإسرائيلي فقط (فقرة 1.1.42)، وأن القانون المطبّق في التّحكيم هو قانون إنجلترا وويلز (فقرة 19.1)، وأن التّحكيم يكون وفقًا لقواعد قاعة لندن للتّحكيم الدوليّ، وأن مقر التّحكيم هو لندن (فقرة 19.4.1)، وأن جميع الاجراءات والبلاغات والتقارير الخاصة بالتّحكيم تكون حصريًّا باللّغة الإنجليزيّة (الفقرات 19.3.2 (ب) و19.3.3 (د) و19.4.7)، وبينما أدخلت الاتفاقيّة في الفقرة 16.1.2 (ز) عبارة «حصول تغيير في القانون» ضمن تعريف القوّة القاهرة التي يمكن من خلالها إلغاء الاتفاقيّة دون تبعات، إلا أنّها عادت لتستثني حصول تغيير في القانون الأردني من هذا التّعريف (الفقرة 16.1.3)، حاصرة هذا الامتياز -إذًا- بحصول تغيير في القانون الإسرائيلي فقط.

الإرادة السياسية الغائبة

من هذا الاستعراض العام والسريع، تتبيّن حجم الكارثة التي رتّبها من مهّد ووقّع ونفّذ هذه الاتفاقية، وهي كارثة ستلحق فعليًّا بالبلاد في حال أصرّ أصحاب القرار على المضيّ قدمًا بها إلى حين بدء ضخ الغاز المتوقع أوائل 2020.

تتمّ كلّ هذه التّرتيبات التي تضع الأردن تحت رحمة «إسرائيل» في ملف استراتيجيّ هام هو الطاقة، وفي سلعة أساسيّة لكلّ مواطن وقطاع، هي الكهرباء، في ظلّ انهيار كامل وشامل لأوهام «السّلام»، واعتراف للولايات المتحدة بضم «إسرائيل» للجولان، وبالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» مع نقل سفارتها إليها، ومشاريع لبنيامين نتنياهو تقضي بضمّ مستوطنات الضفّة الغربيّة إلى «إسرائيل»، واقتراح جاريد كوشنر للمبادرة المعروفة بـ«صفقة القرن» التي رتّبت للمجموعة الحاكمة في الأردن مبلغًا كاريكاتوريًّا مقداره 7.5 مليار دولار (جزء كبير منه على شكل قروض)[15]، مقابل الـ10 مليار دولار التي ستدفعها ذات المجموعة الحاكمة من جيوب دافعي الضرائب الأردنيين لصالح الإرهاب الصهيوني (عبر صفقة الغاز)، بخسارة مقدارها 2.5 مليار دولار تقريبًا!

هذه هي «صفقة القرن» التي تمثّل «اتفاقيّة الغاز» واحدة من أهم ركائزها وأدواتها، وتلك كانت الرّهانات الفاشلة لأصحاب القرار في الأردن: شراء التبعيّة للصهاينة بالمليارات، وتحويل الأردن إلى وسيط وجسر لمدّ النفوذ الصهيونيّ إلى المحيط العربيّ، ورهن أمن ومستقبل ومواطني الأردن بمجملهم للهيمنة الصهيونية، مقابل حرمان الاقتصاد الأردني من فرص تنميته عبر تحويل المليارات من المال العام إلى الصهاينة، وحرمان الأردن من استثمار مصادر طاقته السيادية العديدة (حقول الغاز الأردنيّة غير المطوّرة، الطاقة الشمسيّة، طاقة الرّياح، الطاقة الجوفيّة، الصخر الزيتي، وغيرها)، وحرمان المواطن الأردني من عشرات آلاف فرص العمل التي ستنتج عن هكذا استثمار في وقت تعاني فيه البلاد من أعلى نسب بطالة على الإطلاق.

كل هذا يتمّ في ظلّ خطاب ملكيّ وحكوميّ يدين «صفقة القرن»[16]، ويضع القدس كـ«خط أحمر»[17]، دون أن يتوقّف عند الازدواجيّة الكامنة في أن المليارات العشرة المدفوعة في صفقة الغاز ستصبّ في جيب من ينتهك مقدّسات، ويحتل وينكّل بمواطني، ويهدم بيوت، القدس تحديدًا؛ وستمثّل دعمًا ماديًّا مُباشرًا لصالح من صُمّمت «صفقة القرن» لإدامة نفوذه وهيمنته على حساب المصالح الاستراتيجيّة الأردنيّة، والفلسطينيّة، والعربيّة عمومًا.

أشهر قليلة باقية على سقوطنا في الفخّ الاستراتيجيّ الكارثيّ، بلدًا ومواطنين، بينما تُتيح التغيّرات الحاصلة في الظروف الدوليّة والإقليميّة إلغاء صفقة الغاز فعليًّا: فالرئيس الأمريكيّ ترامب مُنسحب نسبيًّا من التدخّل المباشر في المنطقة وتفاصيل الملفّ الفلسطينيّ تحديدًا، ولا يضع اعتبارًا للأردن والمجموعة الحاكمة فيه إذ استبعدها من مجرّد التشاور في ملفات القدس و«صفقة القرن»، أمّا نتنياهو والقيادة الإسرائيليّة فلا تقيم وزنًا للأردن والمجموعة الحاكمة فيه ولا لدورهما الوظيفيّ كـ«جسر» للتّطبيع بعد أن وجدت ممرًّا مباشرًا وأكثر جدوى لتحالف متين يجمعها مع السعوديّة وبقيّة دول الخليج، عنوانه الأول معاداة إيران.

كما تُتيح بنود وفقرات ومخارج قانونيّة وفنيّة كثيرة في الاتفاقيّة إمكانيّة إلغائها دون تحمّل الشّرط الجزائيّ (الفقرات 2.4.1 و2.5.1 و4.2 و4.3 و6.2.3 والفصل 16 إضافة إلى العديد من الأمور الفنيّة التفصيليّة واجبة الحدوث أو المشروطة مسبقًا).

الأمر -إذًا- يتعلّق بالإرادة السياسيّة الغائبة حتى الآن لأصحاب القرار، والمطلوب منهم اليوم ليس فقط إلغاء هذه الاتفاقية الكارثة، بل محاكمة ومحاسبة ومساءلة كل من أوصلنا إلى توقيع اتفاقية استيراد الغاز العبثية هذه، وكل المتواطئين معها والمشاركين في إنشاءاتها، المسؤولين عن صهينة الأردن وتدمير اقتصاده، وإهدار أمن وكرامة مواطنيه، وتحويل البلد إلى وكيل لصهينة المنطقة العربية، كائنًا من كانوا، وفي أي مستوى من مستويات القرار.

حبر – هشام البستاني

مقالات ذات صلة