محاولة لتفسير هبة الفلسطينيين البدو في النقب

احمد عيسى

تشهد منطقة (النقع) في صحراء النقب والتي تضم ست قرى بدوية من القرى غير المعترف بها وفق التصنيف الإسرائيلي، والتي يقطنها حوالي 30000 من الفلسطينيين، منذ يوم الثلاثاء الماضي الموافق 11/1/2022، هبة جماهيرية تضمنت مواجهات شعبية بين سكان هذه القرى وأفراد الشرطة وحرس الحدود والشاباك، على أثر شروع أجهزة الدولة بتجريف مساحات شاسعة من الأرض التي تعود ملكيتها لسكان هذه القرى، لغايات فتح شوارع وزراعة مناطق خضراء، الأمر الذي يحرم هذا التجمع من القرى من التوسع في المستقبل ويحولها في نفس الوقت إلى تجمعات مكتظة ومحاصرة ومعزولة.

وعلى ضوء الخشية من إتساع مساحة هذه الهبة تمددها نحو الشمال والمثلت، علاوة على الخشية من إنسحاب الكتلة الموحدة (راعام) برئاسة منصور عباس التي تتمتع بتأييد شعبي واسع في النقب من الإئتلاف الحاكم الهش، لا سيما وأن هذا الإئتلاف يحظى بتأييد أغلبية بسيطة (61) مقعد من مقاعد الكنيست ال (120)، علقت الحكومة مشروع زراعة الأحراش الى حين معالجة مشكلة القرى التي أستهدف المشروع أراضيها.

في الواقع ليست هذه المرة الأولى منذ الإعلان عن قيام الدولة العام 1948، التي تفشل فيها حكومات إسرائيل المتعاقبة في تحويل النقب لمنطقة جاذبة لإستيطان لإسرائيليين من اليهود، كما أنها ليست المرة الأولى التي تُجبر فيها الحكومة على وقف مشروع التشجير في المناطق التي تعود ملكيتها للفلسطينيين البدو، إذ أوقفت الحكومة برئاسة نتنياهو تنفيذ مشروع مماثل قبل عدة أعوام، لكنها بالمقابل تعتبر المرة الأولى التي يرتبط فيها مستقبل الإئتلاف الحاكم بمواصلة مشروع التشجير، كما أنها المرة الأولى التي تتوحد فيها أصوات كل الفلسطينيين في رفض ومواجهة هذا المشروع، كما أنها المرة الأولى التي يكون فيها غالبية المنتفضين في المنطقة المهددة من الشباب، لا سيما الفتيات، الأمر الذي يشير بوضوح على أن الصراع يدور هنا على مستقبل الأجيال الشابة من فلسطينيي النقب.

تجدر الإشارة هنا الى أن عدد الفلسطينيين في النقب في نهاية العام المنصرم قد بلغ 300,000 شخص، ما يشكل 32% من نسبة سكان النقب، ومن المتوقع أن يبلغ عدد العرب الفلسطينيين في النقب خلال العقدين القادمين إلى 770,000 نسمة، وبعيش الفلسطينيون على ما نسبته 5% من مساحة النقب الذي يشكل تقريبا نصف مساحة الدولة، الأمر الذي يشير إلى أن بدو النقب يشكلون إلى جانب المتدينين اليهود في القدس ومدن المركز أهم مصادر تهديد الأمن القومي للدولة خلال العقدين القادمين، وذلك لإنخفاض نسبة مشاركتهم في القوة العاملة، ولإنخفاض نسبة التعليم، ولارتفاع معدل النمو السكاني في أوساطهم.

نعم لقد أعلنت الحكومة تعليق مشروع التشجير في المناطق المحيطة بالقرى البدوية، إلا أن مخطط إستئصال الفلسطينيين من النقب مستمر، إذ تظهر إحصاءات لجنة المتابعة العربية أنه في الآونة الأخيرة يتم هدم مبنى واحد يعود للفلسطينيين في النقب كل 6 ساعات.

وفي محاولة تفسير ما يجري في النقب ترى هذه المقالة أن حكومات اليمين المتعاقبة في إسرائيل تسابق الزمن لإكمال ما لم يكتمل في مشروع صناعة الدولة، وفي هذا الشأن تجادل هذه المقالة أن  تيار اليمين النيوصهيوني المهيمن على البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) يؤمن أيدلوجياً وفقاً للمؤرخ الإسرائيلي (ألان بابيه) بأنه التيار الأصدق في تفسيره للصهيونية، وأنه الأقدر على تحقيق أهدافها دون حاجة للإختفاء خلف مبادئ وشعارات الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، كما كان يؤمن التيار الصهيوني الكلاسيكي (العمل) الذي اعلن عن قيام الدولة وبنى مؤسساتها العسكرية والقضائية والإقتصادية.

إذ يرى هذا التيار أن الجدار الحديدي الذي نادى به جابوتنسكي في نهاية عشرينات القرن الماضي قد إكتمل بنائه، فإسرائيل اليوم تمتلك من القوة العسكرية والإقتصادية ما يمكنها من زراعة اليأس في عقول أعدائها في المنطقة بإحتمالات إلحاق هزيمة عسكرية بها، الأمر الذي شجع هذا اليمين على تبني هدف إكمال مشروع صناعة الدولة الذي فشلت الصهيوتية الكلاسيكية في إكماله خلال العقود السبعة الماضية.

وتعكس التصريحات العلنية لحزب يمينا الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي نفتالي بينت هذه القناعات بوضوح، إذ كان الشعار الإنتخابي لكتلته الإنتخابية العام 2019 (لا داعي للتملق) ويجسد هذا الشعار الإفتنان بالقوة المهيمنة على العقل السياسي لقوى اليمين التي يتشكل منها التيار النيوصهيوني، ويعني هذا الشعار ان إسرائيل لم تعد بحاجة لإخفاء أهدافها في فلسطين بالإختباء خلف مبادئ الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا ما يفسر اللاءات الأربعة للحكومة الحالية (لا لوقف الإستيطان، لا للضم العلني، لا للمفاوضات السياسية مع الفلسطينيين، لا للدولة الفلسطينية).

كما تتجلى هذه القناعات في ما يجري من إعتداءات إسرائيلية على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم في النقب يومياً، اللافت هنا أن المستوطنين هم رأس الحربة في تنفيذ مشروع التشجير، كما أنهم رأس الحربة في تنفيذ مشروع التهويد في القدس وضواحيها، وهم كذلك رأس الحربة في إقامة البؤر الإستيطانية في بيتا وبرقة وغيرها من القرى الفلسطينية، مخالفين في هذه الأخيرة أوامر الجيش، الأمر الذي يشير إلى عدم نجاح الجيش في حسم صناعة الوجود.

من المتوقع في المستقبل القريب تفكك الإئتلاف الهش الحاكم وتشكيل إئتلاف حكومي يميني خالص يحظى بأغلبية برلمانية بعد إنضمام الليكود للحكومة بعد رحيل نتنياهو عن رئاسة الحزب، لا سيما وأن هناك تسريبات قوية عن قرب عقد صفقة بين نتنياهو والمستشار القانوني للحكومة تقضي بإغلاق بعد الملفات مقابل مغادرة نتنياهو الحياة العامة، الأمر الذي يشير إلى مزيد من التهويد في القدس ومزيد من الإستيطان في الضفة الغربية ومزيد من الإعتداءات في النقب، وبعبارة أخرى مزيد من إنزياح إسرائيل نحو نموذج الأبارتايد في جنوب أفريقيا إبان حكم البيض.

مركز الناطور للدراسات والابحاث

مقالات ذات صلة