لماذا نخاف من الديمقراطية؟

سوسن جميل حسن

حرير- منطق المؤامرة وتعليق كل أسباب الفشل في تجاوز الواقع والأزمات كلها، والتخلف عن مواكبة العالم، وعدم القدرة على تجاوز تخلفنا، ووضع حدّ للحروب التي تفتك بأوطاننا، والاقتتال البيني في عديد منها، ما زالت هي الحكم، لدينا، في تقويم أي تجربة في العالم، لدى الشعوب والدول التي صنعت أنظمتها الاجتماعية والسياسية ونظم إدارة حياتها، ومنها على سبيل المثال بريطانيا، التي تمرّ بأزمة كبيرة على المستوى الاقتصادي بالدرجة الأولى، وما تجرّ هذه الأزمة خلفها من أزماتٍ على مستوياتٍ أخرى، فنحن لا نستطيع فصل الماضي الاستعماري لهذا البلد أو ذاك، وتداوله في ما يخدم تطلعاتنا وأهدافنا، فيما لو كانت لدينا أهداف حقيقية لا أوهام، كما دأبت الأنظمة على فبركتها وتقديمها لشعوبها، لتصبح مثل شمّاعةٍ تعلّق عليها كل أسباب عجزها وفشلها، وقبل كل شيء أداءها القمعي التسلطي، وتمسّكها الشرس بالسلطة، ومصادرة المجال العام من دون أن تترك لأي رأي مخالف، أو طرح مختلف عن أجنداتها، مجالًا فاعلًا ومؤثّرًا.

كل ما تنتجه هذه الدول، بالنسبة إلينا، يرمي إلى الإمعان في نهبنا والتآمر علينا ومصادرة مستقبلنا، نحن الشعوب المنكوبة بأكثر من مصيبة، ما عدا ما يتعلّق بأدوات العيش والحياة في هذا العصر، التي صارت من أهم ضروريات الحياة، ولا تستقيم من دونها، من صناعة وابتكارات وغيرها، ومن دون أن نملك القدرة على صناعة جزءٍ منها يخدم حياتنا، معتمدين على مواردنا الطبيعية المتوفرة في عدة مستويات لدينا. أمّا إنتاج الأفكار والثقافة والتجارب القابلة للحياة، فهذا يدخل في منطق المؤامرة، وخدمة العدو، مرّة على مقدّراتنا، وأخرى على هويتنا القومية والدينية وغيرها، ومرّات على أوطاننا من أجل تفتيتها، مثل ما لو أن هذه الأوطان منيعة بما حباها الإله، أو الطبيعة، أو القدر، من أنظمة منتمية إلى شعوبها، حارسة للقيم والحاضر، ومخلصة في صناعة المستقبل، بالرغم من توفّر الأدلّة الدامغة على بطلان هذا الادّعاء، لعقول تريد أن تفكّر، على الخراب الذي يلحق بحياة شعوبنا تحت حكم هذه الأنظمة المؤبّدة.

الديمقراطية البريطانية من أهم الديمقراطيات في العالم، وليس انتخاب رئيس الوزراء الجديد ريشي سوناك، ذي الأصول الآسيوية، إلّا دليلًا بيّنًا على هذه الديمقراطية، لكنها لم تُخلق جاهزة مكتملة منيعة أمام الزلازل والهزّات، خصوصا في الوقت الحالي الذي يعيش فيه العالم مرحلة فائقة الحساسية، ستنجم عنها بالتأكيد إعادة ترتيب للنظام العالمي، الديمقراطية البريطانية تعود في سيرتها وبداية حياتها إلى ما يفوق القرنيْن، بل أكثر من ذلك، إلى بداية القرن الثامن عشر، وما شهد من اضطراباتٍ واقتتال أهلي، إذ كان سواد الشعب من المهمّشين، لا وجود لهم على الخريطة السياسية أو الاجتماعية أو حتى الاقتصادية في بريطانيا، ما نجم عنه تغيّر في نظم الحكم، وزيادة صلاحية مجلس العموم، وتقليص صلاحيات مجلس اللوردات نسبيًّا، الذي كان يتكوّن من الطبقة الأرستقراطية. وهذا كان من نتائج الثورة الصناعية، وبروز الطبقة البورجوازية وأصحاب المصانع والأموال، لكن المسار لم يكن سهلًا، ولا قصير الأمد، فبقي الصراع دائرًا بين الطبقة المسيطرة التي لا تنوي التنازل عن صلاحياتها والطبقات الأخرى الصاعدة، التي ترنو لأن يكون لها دور فاعل في الحياة السياسية وصنع القرارات، مع الوقت والعقود، كانت الإصلاحات تزداد والقوانين تتغيّر، والتشريعات والتنظيمات أيضًا، وازداد عدد الشرائح المجتمعية التي حصلت على حقوقها، ودخلت في الحراك السياسي وصارت ممثلة في البرلمان. كان هذا كله يترافق، وينجم عن الغضب الشعبي الماضي في طريقه، ولم يكن الطريق ممهّدًا أمام الشعب، بل قوبلت انتفاضاته المتلاحقة بالقمع والعنف، خصوصا في بدايات القرن التاسع عشر، إذ قوبلت الاحتجاجات الشعبية بالقمع ومصادرة الحريات ومنع التجمّعات وازدياد الرقابة على الصحف، بل مصادرتها أحيانًا، لكن الشعب الطامح باسترداد حقوقه لم يكن ليتراجع عمّا بدأه قبل ذلك الحين بعقود طويلة، بل استمرّ، واستمرّت الحكومات في تنازلاتها، عن طريق الإصلاحات التي تقترحها، ولو جزئية، إلّا أنها كانت تمتصّ غضب الشعب مرحليًّا، نجمت عن هذه التنازلات إصلاحاتٌ في قوانين الانتخاب، ما أدّى إلى زيادة رقعة الذين يحق لهم الانتخاب، وإعادة تنظيم ما تسمّى الدوائر الانتخابية، واستمر الوضع موّارًا بهذا الشكل من المواجهة، والمناورة، أو المبارزة بين الشعب والحكومات، تنجم عنه باستمرار تشكّلات جديدة وتغييرات في القوانين والأنظمة والتشريعات، وتزداد الحقوق التي يسعى إليها الشعب، ومنها حقّ المرأة في الترشّح والانتخاب والملكية، والحق في التعليم، والحق في التمثيل لكل فئات الشعب. وهذا ما يمكن القول عنه إنه لم يكن منفصلًا عن حركة تغيير أوسع عمّت معظم الأنحاء الأوروبية، إذ كانت أوروبا في حالة مخاض سوف تنجم عنه أشكال من الأنظمة الاقتصادية والسياسية فرضتها الثورة الصناعية، وأوحت بها الثورة الفرنسية أيضًا، بالشعارات التي أطلقتها، بالرغم من انتكاستها وعودة الملكية، لكن تلك التغيرات، والنهضة الفكرية التي كانت قد بدأت تؤتي ثمارها في إنارة وعي العامة، كانت قاعدتها الكبيرة قد بدأت تترسّخ.

خلال هذه المسيرة الطويلة، كانت الحكومات المتعاقبة تسعى إلى أن تصلح ما أمكنها، واضعة نصب عينيها إرادة الشعب، وغضبه الواقف خلف إرادته، من وجوه الفساد الإداري والسياسي والاجتماعي وغيره في البلاد، والتأسيس لما سيكون الدعامات الهامة والأساسية لاستقرار البلاد، من قوانين الخدمة المدنية إلى إصلاح الجيش، إلى قانون الانتخابات، إلى قوانين الإصلاحات الزراعية، إلى قوانين (وأنظمة) التعليم، الذي جُعل إلزاميًا ومتاحًا للعامة من أبناء الشعب أيضًا، وهذه خطوة مهمة في بناء المجتمعات، من دون إهمال المجال الاقتصادي وتقويته ودعمه، وغيرها الكثير أيضًا.

هذه هي تجربة إحدى أهم الديمقراطيات في العالم، فكيف لشعوبنا المقهورة، المنكوبة، أن تقف عند لحظةٍ ملهمةٍ كهذه، وتتمعّن في حمولاتها ودلالاتها؟ هل يمكن التكهّن بأن هذه التجارب التاريخية الراسخة والحاضرة بقوة يمكن أن يكون لها أثر، مهما كانت قيمته، في تغيير نظم تفكير غالبية هذه الشعوب؟ ما يحزّ بالنفس ويدعو إلى الإحباط ليس فقط واقع الحال الذي تغرق فيه هذه الشعوب في مستنقعاتها أكثر من الماضي القريب، بل إنها، في غالبيتها أيضًا، في الدول المشتعلة، وما أكثرها، لم تعد تملك في ساحة وعيها مكانًا للتفكّر بواقعها ومآلاتها، فهي غارقةٌ في مسألة تشغل وعيها ووجدانها، ولا ترى في الأفق غيرها مسألة تحدّي الموت الماثل في وجهها ليل نهار، على شكل لقمة خبز وومضة كهرباء وكأس ماء، وأمل في الحصول على علاج، قد يبدو معدومًا، وتحت ضغط هذا الواقع المهين. لا تجد هذه الغالبية أمامها إلّا ملاذيْن وحيدين، الدين والعبادات، المصادرة لصالح من يستغلون الدين في السياسة ويطمحون في السلطة ومصادرة المجال العام أيضًا، أو الالتحاق بركب الأنظمة القمعية الظالمة، على أنها خشبة النجاة الوحيدة من المؤامرة التي تقضي على الحياة والأوطان. وها هي سورية ولبنان والعراق واليمن وليبيا، وتونس والسودان، وما يمكن أن يلحق بها، أكبر برهان. لذلك، يبدو أن دروس التاريخ، ومنها دروس مهمة وملهمة، ليست صاحبة حظوة بيننا، خصوصا إن جاءت من ذلك العالم المتآمر، حكمًا، علينا.

مقالات ذات صلة