لا عنده ولا عند باله؟!…صالح عبدالكريم
كانوا مجموعة من الأصدقاء يجلسون لمتابعة مباريات كأس العالم، وإذ بأحدهم يستأذن الحاضرين للحديث بالهاتف في الغرفة المجاورة، بعد دقائق سمعت أصوات غريبة تشبه أصوات القصف المدفعي في الحرب العالمية الأولى، نظر الأصدقاء لبعضهم بعضا نظرة تعجب واشمئزاز، أحدهم كان يأكل فقوس وكاد أن يتشردق بها، والآخر طلب أن يفتح الشباك فورا وأن يحضر له المعزب رأس بصل لعل وعسى أن يساعده على التنفس، بينما أصيب المعزب باحمرار العينين وأصبح يعاني من صعوبات في النظر، واتصل أحد الجيران مع المعزب وطلب منه أن يتفقد جرة الغاز لأن عائلته أصيبت بالاختناق!
عاد ذلك الشخص الذي كان يتحدث بالهاتف وهو لا عنده ولا عند باله معتقدا أن لا أحد من الحضور سمع فعلته الشنعاء، وحين رأى بعينيه ضحايا القصف شعر بالحرج الشديد، فقد كان أصدقاؤه في حالة يرثى لها كما لو كان التسرب من مفاعل نووي وليس من كائن بشري، حتى إنه تعجب من أن جميع الحيوانات الزاحفة والطائرة داخل المنزل قد فارقت الحياة من دون أن يستخدم أي مبيد حشري!!
طبعا لا هو قادر على الاعتذار عما صدر منه، ولا أصدقاؤه لديهم الجرأة على معاتبته، وأكملوا الجلسة بتحليل خروج ألمانيا من كأس العالم، مع أن هذا الشخص لو فعلها داخل أروقة مجلس الأمن الدولي لكانت كافية لخروج الولايات المتحدة والصين وروسيا منه ولأصبح حق النقض بيد كوالالمبور.
طبعا ذلك الشخص لو كان يملك القدرة على تقدير الموقف ونتائجه لما حصل ما حصل، ولكنه أخذ راحته متوقعا أن لا أحد سيسمعه، أو أن الرائحة ستختفي مع رائحة الدخان، ولم يدرك حجم المأساة والفاجعة إلا بعد أن شاهد أصدقاءه وقد سدت شهيتهم حتى عن شرب الماء.
بعد تلك الحادثة، لم يعد أي من هؤلاء الأصدقاء يتابع مباريات كأس العالم، فقد أصبحت تذكرهم بتلك الفاجعة التي يودون نسيانها بأسرع وقت، وبعضهم ألغى صداقته مع ذلك الشخص حتى على الفيسبوك، وما يزال بعضهم يراجع طبيب باطنية لما يعانيه من صعوبات بالغة في الهضم، وآخر يقال إنه فقد حاسة الشم بشكل تام وبحاجة ماسة لزراعة أنف!
بعض تصرفات المسؤولين تشبه تصرفات ذلك الشخص، فهم يجرون مشاوراتهم في الصفقات السياسية بعيدا عن الشعب معتقدين أن لا أحد سيشمها أو يسمع بها.
طبعا في النهاية نحن الضحايا، ولكن ليس لدينا قدرة على معاتبتهم، ولا هم لديهم الجرأة على مصارحتنا فيما يدور في كواليس تلك المباحثات.
في الصفقات الاقتصادية، ذهبوا جانبا وفعلوها، وإلى اليوم ما نزال نعاني من مديونية وعجز مالي وفقر وبطالة، في الصفقات النيابية، ذهبوا جانبا وفعلوها، وإلى اليوم نعاني من تردي المراقبة والمساءلة والمحاسبة، في الصفقات الحكومية، ذهبوا جانبا وفعلوها، وإلى اليوم نعاني من تعيين المحاسيب والأقرباء والأنسباء وإحالة العطاءات على الأصدقاء والشركاء.