مالكوم إكس… لم تنته الحكاية

مهنا الحبيل

حرير- يُشير هشام عايدي إلى مفهوم الجمال الفني والمظهري عند مالكوم إكس، وعايدي أميركي من أصل مغربي، مهتم بحركات المقاومة الاجتماعية، والطبقات الغاضبة المهمّشة من أصول أفريقية، في فرنسا والولايات المتحدة. ما يهم الكاتب هنا أن هشام يدرس هذه الظاهرة، من زاوية مختلفة عن مركزية الأكاديمية الغربية، وهو يطرح مفهوماً سبق تداوله، في فلسفة الفكرة الإسلامية والمعذبين في الأرض. غير أن هشام، الأستاذ في جامعة كولومبيا، يُقدّمه هنا في مسار فهم التحوّل الكمّي والنوعي، للطبقات المحرومة أو المهمّشين في الأرض، وعلاقته بالمنظومة الأقرب إلى حملهم وإنقاذ نفسياتهم، وتمهيد الطريق الشرعي إلى الكفاح المدني، وهو الإسلام. وهنا تُستَدعى الصورة المختلفة لحضور الفكرة الإسلامية، في أميركا وأوروبا، فهي لم تأت باسم التبشير الديني، ولكنها وحي وإلهام تتعلق به الذات التي تجد أن الله يملأ روحها، وأن الدين يصنع لها قاعدة حياة وكرامة مختلفة، تفرض عليه أن يكون حسناً في خُلقه وفي سلوكه، لا غاضباً ينتقم من ذاته قبل الآخرين.

ولذلك، تعود الرحلة بنا إلى قصة مالكوم إكس، فما يجري في العالم الأميركي الآخر، لا يزال له امتداد بخلاصات حياته ورحلته، التي تتّحد مع عقيدة المحرومين، ولا يقف وحي أفكار مالكوم على جماعته المنسوبة له، والتي تمتلك مركزاً إسلامياً في حي هارلم، ولكنها تتسرّب إلى عوالم أخرى.

وفي تقديري أن رحلة مالكوم تعود اليوم، ليس إلى جانب الأميركيين الأفارقة فقط، بل تعود قصة كل محروم ومهمّش، فعجلة الذبح الرأسمالي اقتصادياً وسياسياً من جهة، ومن جهة أخرى تَسلُّط الحداثة على سور السكينة الأخير للنفس وللأسرة، ونزع منزلها الروحي منها، وإلقاؤها في صخب حياة الفلاشات والفوضى الهدّامة لمنتجات “السوشيال ميديا”، تقود إلى التساؤل أين الطريق للإنقاذ، وهو طريق يصطدم بهذه الترسانة من السياسات والنظريات المفروضة لعالم الرأسمالية الغربي، فيحضُر مفهوم المقاومة من جديد.

يُعلّق هشام على حرص مالكوم إكس، رغم تواضع ملابسه، على الحفاظ على هندامه الجميل، وأن شخصيته أضحت لوغو مفضلاً لدى بعض الشباب منذ استشهاده، ويقول إن ابنة مالكوم سمحت له بدخول مكتبته الخاصة، وأنه اطّلع على أحد كتب سارتر المترجمة من الفرنسية إلى الإنكليزية، فكان مالكوم يضع دوائر دقيقة على خطأ الترجمة، ويستفزّه تغيير المعنى، ومالكوم كان يتقن الفرنسية، وكان يرى أن مساحة ما حرّره فلاسفة اليسار، وخصوصا سارتر، عن الزنوجة والتحرّر، تتقاطع مع كفاحه. ولكنه فوجئ بمنع دخوله فرنسا، بناءً على تحريض السفارة الأميركية، فقال ساخراً: لم أعلم أن فرنسا تابعة لأميركا!

في هذا المنعطف تحديداً، تبرز لدينا ازدواجية بعض مفكّري اليسار، إذ حضرت الفردانية التي انحرفت بفوكو، أيضاً، لدى سارتر في مفاهيمه الكلية التي استدعتها الحداثة، وحاصرت بها الشعوب مجدّداً، وعزّزت الطوق ضد المحرومين والشعوب المضطهدة، إلا أن من الواجب أن تعاد سيرة تلك النخبة، وبالذات فرانز فانون، المقاوم الفرنسي الأسمر الصلب، الذي تحوّل إلى الكفاح المسلح لصالح جبهة التحرير في الجزائر.

يعود هذا الحشد بنا إلى طرح سؤال المقاومة المدنية، وخلاصات موقف مالكوم إكس، وأين يقف في فكرة الشمول الأخلاقي الإسلامي. يجب هنا أن أنوه بالمقالة المترجمة المهمّة لهشام عايدي، (موسيقى مالكوم إكس بين الملطّف والمتطرّف)، وهي تُسلّط الضوء على مشروع إعادة إنتاج مالكوم إكس لصالح الدولة العميقة في أميركا، وتهذيب ثورته بالقدر الذي يسمح بأن يُقدَّم سجل حياته وفكره، كأيقونة تُجمّل تاريخ أميركا المعاصر. ويُشير هشام عايدي إلى أن ضم مالكوم إلى أوباما، في مسرح الترويج الأميركي، هو اختزال مضلّل، وكأنما هذه الحياة الرأسمالية هي من فتح الباب لمشروع مالكوم، فانعكس على أوباما.

هناك كثير مما يقال في تفنيد هذا الإيحاء، بل إن شخصية أوباما على الضد تماماً مما رحل عنه مالكوم، فالأول اُخضع بالفعل إلى تقاطعات القوة العميقة التي لا يُغيرها البيت الديمقراطي أو الجمهوري، أما مالكوم الذي كُشف، أخيرا، عن دور مكتب التحقيقات الأميركية في اغتياله، وتوظيف مجموعات اليجا محمد ضده، فهو لم يزل ثائراً لصالح المهمّشين المحرومين، وملهماً لتلك الجموع من الشباب الباحثين عن قيم الحرية والفطرة الإسلامية معاً.

وحين يستطرد هشام عايدي عن معيار الموسيقى، في تحديد مقدار التطرّف لدى أجهزة الدولة في أميركا وفرنسا، يعرض إلى ذوق مالكوم إكس وانسجامه، وخصوصا في الجاز. ويُعيد هشام هنا ما أتذكّره تماما في كتاب ألكس هالي، عن دقة وصف مالكوم مقاطع الموسيقى، وحتى إشارته إلى جماليات الرقص، لكنه التزم بالحفاظ على القيم التي تمنعه من الابتذال، وإنْ كان له رأيه في الموسيقى الدافعة إلى ضمير الحرية، والتي ظلَّ يستمع لها. والحكاية هنا متشعبة في فوضى معيار الدولة في الغرب، في الرصد والحذر من الشباب الغاضب، أو اتقاء توظيفهم عبر جماعات متطرّفة أعمال عنف، وما بين أن الموسيقى قد تكون ضمن سياق لغة الغضب الجامح في النفوس.

يهمنا هنا، وبدقة شديدة، العودة إلى تحرير أفكار مالكوم إكس، وإلى تأكيده الصارم بأنه لم يتخلّ عن مفاهيم الكفاح الحقوقي المدني، دمجه مع إعادة تعريف الإنسان الذي شمل الإنسان الأبيض، وأن يديه امتدتا، منذ ذلك اليوم، إلى التعاضد المشترك، وهنا لا بد من رسم خطٍّ فاصل وشرح عمق غائب، عن حضور الإسلام في رحلة الكفاح الحقوقي.

والذي يخلق بعداً أخلاقياً، وانسجاماً فلسفياً، بين أفكار الحرية والكفاح، وقيم الطهرانية الجسدية والروحية، التي ينصبغ بها الفرد ويُجلّل بها أسرته القريبة ومجتمعه الإنساني الشامل، إنها معادلة ترفض توظيف المعادلة الغربية للحياة الاجتماعية، وصناعة معايير الانتقاء لخلق إسلام مفصّل يروق للرأسمالية، في حين يبعث إسلام الحقيقة للمهمشين النور لأرواحهم، ويتجاوز أزمة اليسار مع الإنسان الأخلاقي.

مقالات ذات صلة