الدولة الفلسطينية… الإمساك بالحلم والواقع معا

سامح المحاريق

حرير- لم تكن ثمة خرائط أو تصورات مبدئية لوعد بلفور، ولكنه أتى مبهما بالصورة التي جعلت تصورا واسعا يسود بأنه يشمل ضفتي نهر الأردن، أو الأراضي التي تقع غرب خط حديد الحجاز، وكان أن أنهى المندوب هربرت صموئيل الجدل حول ذلك، باستثناء صريح لشرق الأردن من وعد بلفور في أغسطس 1920، ولم يكن كذلك ثمة تصور لشكل الوطن القومي لليهود في فلسطين، ولم يكن الوعد يتضمن تعهدا بتأسيس دولة يهودية، بالمعنى المعاصر والكامل، ففي الحقيقة، كان البريطانيون يتخبطون في تصوراتهم تجاه المنطقة، وكان الخلاف عميقا بين العديد من المؤسسات، خاصة بين مكتبي القاهرة وبغداد، وبين لندن والهند. خرجت بريطانيا من الحرب العالمية الثانية مرهقة وعايشت ظروفا اقتصادية صعبة، أدت إلى تقنين حتى أبسط المواد الغذائية على مواطنيها، وفي فترة الحرب تمكنت الحركة الصهيونية من تغيير الوقائع على الأرض، والقبض على زمام المبادرة، لدرجة دفعت بريطانيا لاتخاذ مواقف سلبية وكأنها لم تكن الدولة التي ورطت الجميع، في بذرة كيان يسير في الاتجاه المعاكس لكل القيم التي بدأت أوروبا تحاول اعتناقها، بعد دفعها للتكلفة الباهظة للغاية للحرب، ولم تكن سوى سنوات قليلة حتى تكشفت عدوانية إسرائيل، التي استهلكت الكثير لتغطيتها من خلال الضغط المعنوي والمادي في أوساط الإعلام والفكر.

امتنعت بريطانيا عن التصويت على قرار التقسيم، قبل أشهر من إعلان دولة إسرائيل في اليوم الأخير للانتداب البريطاني على فلسطين، ومع ذلك أصبحت إسرائيل أمرا واقعا بعد أن تلقت أول اعتراف دولي من الاتحاد السوفييتي، ولحقته الولايات المتحدة، لتصبح دولة الأمر الواقع فاعلا دوليا لا يمكن تجاهله، بل كانت الطرف الذي أعلن عن استعداده العدواني مع المشاركة في حرب 1956 ضد مصر، والزحف إلى مواقع متقدمة في شبه جزيرة سيناء.

الدولة التي تأسست بناء على وعد بلفور تزامن قيامها مع أفول الإمبراطورية البريطانية، وكانت واحدة من تجليات فقدان لندن لسطوتها على العالم بعد الفوضى التي أثارتها في المنطقة، والتي تكشفت عن وضع غير مريح للبريطانيين مع الاكتشافات النفطية في الخليج، بما كان يجعل للكتلة العربية وزنا يجب وضعه في الاعتبار.

تصاعد الدعوات للاعتراف بدولة فلسطين، بعد تصريحات من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، قبل أن تعلن بريطانيا استعدادا لاعتراف مماثل، في حال لم تسمح إسرائيل بدخول المساعدات لقطاع غزة، والتراجع عن ضم الضفة الغربية، ولحقت البرتغال وكندا بالركب، في خطوة ستمثل اختراقا كبيرا ونوعيا للقضية الفلسطينية، ولكن ثمة الكثير من الأسئلة التي يجب طرحها على مشارف حدث ربما يسجل بوصفه نقطة تحول تاريخية. الفلسطينيون يقفون أمام اعتراف يمكن أن يمثل مشكلة بالنسبة لهم، لأن السلطة الوطنية في ظل الظروف السائدة، لم تتمكن من تجديد شرعيتها بالصورة المطلوبة واللازمة للتعامل مع المجتمع الدولي بانفتاح وإيجابية، وتعود هذه الوضعية إلى أسباب ذاتية، وهي استحكام وجود بعض الوجوه التي تريد أن تحافظ على مواقعها في المنظومة القائمة، وتخشى أن تخضع عمليا لانتخابات، تعيد ترتيب المشهد بالكامل، بالإضافة إلى التشظي الفصائلي القائم، بوصفه الطريقة الفلسطينية لإدارة الأمور، وليس الأحزاب السياسية الناضجة التي تعبر عن الواقع المحلي في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، وأسباب أخرى موضوعية، أهمها الضغط الذي تمارسه إسرائيل على السلطة، وسيطرتها الاقتصادية والأمنية على العديد من مناحي الحياة، فالفلسطينيون بعدم قدرتهم على استصدار عملتهم الخاصة، أو تحصيل الرسوم الجمركية، يظهرون وكأنهم من غير خيارات اقتصادية، يضاف إلى ذلك، السلبية العربية تجاه تقديم الدعم للسلطة الوطنية، إلا بطريقة محدودة وموسمية، مع أن المطلوب في هذه المرحلة هو، العمل على تعزيز قدرة السلطة على الوجود في الساحة، وإلا ستتحول المشكلة الفلسطينية من مرحلة محددة الملامح تدور حول الحصول على دولة فلسطينية، إلى قضية بالغة السيولة تلقي بملايين الفلسطينيين إلى المجهول بصورة مقلقة لمجمل المنطقة العربية.

يبدو أن الرئيس محمود عباس يستشعر مدى أهمية البحث عن شرعية جديدة في الأوساط الفلسطينية، مع إعلانه إجراء انتخابات منظمة التحرير خلال العام الجاري، ما سيوازي بين الإعلان عن الدولة، ووجود تمثيل فلسطيني يمكنه أن يبني على الخطوة الكبيرة والمؤثرة لو حدثت، لأن الوجود على أرضية المجتمع الدولي يخلق وقائع يمكن أن تمضي بصورة غير مرغوبة بالنسبة لإسرائيل، التي أظهرت توترها مع تصريحات أمير أوحانا رئيس الكنيست، الذي خاطب الأوروبيين لإقامة الدولة الفلسطينية في باريس أو لندن، واصفا الخطوة بأنها مكافأة لحماس.

التوجهات الأوروبية تظهر أيضا مشكلة عربية عميقة، تتمثل في عدم وجود تصور لواجباتها تجاه الدولة الفلسطينية، بوصفها أمرا واقعا على مستوى المجتمع الدولي، ولا كيف ستستجيب للتفاعلات الناتجة عن هذه الخطوة، فالاعتراف العربي بدولة فلسطين، ومعاملة السلطة كدولة في علاقاتها مع الدول والمنظمات العربية أمر مختلف عن اعتراف أممي يعزز موقف فلسطين في المرحلة المقبلة، بحيث تصبح أي إجراءات إسرائيلية اعتداء على دولة مستقلة، وليس توسعا في أرض متنازع عليها، كما سعت إسرائيل للإيحاء للمجتمع الدولي بخصوص وضعية الأراضي الفلسطينية، وسينتقل الصراع بما يشتمل أيضا على اتفاقيات السلام الموقعة من اتفاقية بين طرفين، إلى شأن أكثر تقاطعا مع القيم المؤسسة للنظام العالمي ككل. المسؤولية الكبيرة في التلقي الإيجابي والمشتبك مع الاعتراف بدولة فلسطين، تحتم أن يمضي التفكير في المراحل التي تلي هذه الخطوة، والأعمال التي يمكن أن تنتهجها إسرائيل لتعطيلها أو تفريغها من معناها، مثل التهام الضفة الغربية بالقوة، وتغيير وضعها القانوني بقرارات منفردة من جانب إسرائيل، وهذه مسؤولية تفوق ما يتوفر للسلطة الوطنية ومؤسساتها من إمكانيات، وتتجاوز قدرة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تضررت هي الأخرى باختزال القضية الفلسطينية في شؤون السلطة، والتحديات الكثيرة الماثلة أمامها.

ستكون الأسابيع المقبلة ساخنة ومليئة بالضغوطات، ولكنها ستحمل فرصة تاريخية للسلطة الفلسطينية، لتتحول من إدارة حكم محلي إلى دولة مكتملة الهوية والشخصية في المجتمع الدولي، وهو ما يمكن البناء عليه من خلال استغلال التناقضات التي تتنامى في إسرائيل مع اليمين المتطرف، الذي يسعى لوضع إسرائيل في معارك صفرية تتطلب انتصارا كاملا وصريحا، الأمر الذي لا توفره الشروط السائدة في العالم الحديث، فلا روسيا تمكنت من حسمه في أوكرانيا، ولا فعلتها أمريكا في أفغانستان.

يواجه الفلسطينيون لحظة أكون أو لا أكون ضمن الشروط القائمة، فحلم من النهر إلى البحر، يبدو أنه سيتأخر لأجيال تطول أو تقصر، إلا أن خطوة الدولة تعتبر مركزية في تحقيق هذا الحلم، وتحقق للفلسطينيين مواقع مهمة واختراقات كبيرة، كما كانت خطوة تأسيس دولة (إسرائيل) محورية في العالم قبل نحو ثمانين عاما.

مقالات ذات صلة