نتنياهو والأمن الإسرائيلي المثقوب

سمير الزبن

حرير- لا مبالغة في القول إن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، صانع أساسي للوقائع الحالية التي يمر بها الصراع على الأرض الفلسطينية، ليس بفعل ما حدث في 7 أكتوبر، بل قبل ذلك بكثير، منذ ترشّحه في مواجهة زعيم حزب العمل، شمعون بيريز، الذي خلف إسحاق رابين الذي اغتالته رصاصات اليمين المتطرّف في إسرائيل في منتصف التسعينيات، وهو الحدث الذي أعلن التحوّل المتسارع للشارع الإسرائيلي باتجاه اليمين واليمين المتطرّف، والذي عبّر نتنياهو عنه وأداره، واستطاع من خلاله تدمير العملية التفاوضية مع الفلسطينيين، وتدمير أي فرصة للسلام مع الفلسطينيين، فهو الرجل الذي بقي أميناً لخياره السياسي اليميني المتطرّف، رغم انتهازيته وتلوّناته على مدة العقود الثلاثة المنصرمة، فمنذ وصوله إلى السلطة في المرّة الأولى، يعتقد نتنياهو أن الهاجس الأمني الذي أطلقه في مواجهة “عملية السلام” في حملته الانتخابية الأولى هو الذي أوصله إلى السلطة في إسرائيل، وهو ما كرّره في كل مرّة خاض فيها انتخابات. ومن كثرة ما استخدم التعبير، استحقّ لقب “السيد أمن” من المعلقين الإسرائيليين. وكل ما فعله هو تحويل الخطاب الأيديولوجي الأمني الى برنامج عمل سياسي للحكومات الإسرائيلية التي تزعّمها، من أجل بناء إسرائيل المنيعة أمنياً، وبعدها أصبحت مفردة “الأمن” تشكل كل قاموسه السياسي، والورقة الرابحة التي يطلقها من جراب الحاوي مع كل انتخابات إسرائيلية لجمهور إسرائيلي يسير بثبات نحو اليمين، فهو لم يكلّ ولم يملّ من إعادة كل القضايا إلى الأمن، وفي كل مرّة ذكر فيها مفردة “السلام” وضع مفردة الأمن مقابلها، وإلا اختلّ الخطاب السياسي المتشدّد لرئيس الوزراء الذي يفضّل الظهور بمظهر الرجل القوي لدولةٍ قوية، قادرة على فرض شروطها على الآخرين، فمنذ جلسة الكنيست التي عرض فيها نتنياهو حكومته الأولى، استمرّ في تأكيد أن السلام في المنطقة يجب أن يتوافق مع المتطلبات الأمنية لإسرائيل، وإلاّ كان السلام مهزوزاً وغير ثابت.

بني نتنياهو متطلبات إسرائيل الأمنية على قاعدة أن إسرائيل في خطر، ويجب حمايتها من أي أخطار مستقبلية أو متوقّعة، كما يجب تعزيز أمنها الحالي. من أين يأتي الخطر؟ من كل الجهات. وبحسب نتنياهو في كتابه “مكان تحت الشمس”، لا أحد في إسرائيل مقتنع بما يكفي فيما يتعلق بالسلام مع منظمة التحرير الفلسطينية ، بل من شأن قيام دولة فلسطينية توفير ظروفٍ مناسبة لتحقيق هدف “إزالة إسرائيل”، يمكن مقارنة هذه التصريحات القديمة لنتنياهو مع تصريحاته الجديدة عن مخاطر الدولة الفلسطينية.

يتّصل الموضوع الأمني، بحسب منطق نتنياهو، بأهمية الأراضي المحتلة، تحديداً الضفة الغربية أيضاً، التي يشكّل سورها، الحاجز الطبيعي الذي يحمي السهل الداخلي من أي هجوم، لا يحمي، بصورة مباشرة، سكّان إسرائيل الذين يعيشون على الساحل فحسب، إنما يمنح الجيش الإسرائيلي الوقت الكافي لنقل قوات الاحتياط إلى الجبهة، فإن نتنياهو يقول إنَّ الدرس الذي يجب أن تتعلمه دولة صغيرة كإسرائيل أن أهمية الأرض، في زمن الصواريخ تزداد ولا تنقص، الأمر الذي يزيد من أهمية السيطرة على منطقة تمنح الجيش الإسرائيلي قدرة امتصاص هجوم أرضي، ويضيف أن إسرائيل ليست في حاجة إلى الاستيلاء على مناطق أخرى، إنما يجب أن تحتفظ بالعمق الاستراتيجي الحالي الذي تمثلّه الضفّة الغربية، لذلك يعتبر أن دولة فلسطينية ستكون مثل اليد الممدودة لخنق شريان الحياة لدى إسرائيل الممتد على طول ساحل البحر.

تفسّر هذه الخلفية الأيديولوجية سلوك نتنياهو التفاوضي على المسار التفاوضي الفلسطيني، عندما كان هناك مفاوضات، كما تفسّر سياساته اليوم. فهو لم يخفِ عدم راحته لأي اتفاق مع الفلسطينيين. حشد نتنياهو قائمة كاملة من الشروط الأمنية المسبقة، في وقتٍ دعا فيه الأطراف العربية إلى الدخول في عملية السلام مرّة أخرى من دون شروط مسبقة، لاعتقاده أن العرب سينسجمون مع الواقع القائم في نهاية الأمر، ولن يبقوا يضربون رؤوسهم في الجدار. لذلك عمل نتنياهو على أن تتآكل عملية السلام الثنائي من خلال المماطلة، مع الاستمرار في ادّعاء الرغبة الإسرائيلية في السلام، من خلال التكرار اللفظي للتمسّك بعملية السلام. إن الشروط التي وضعها الليكود للسلام، كانت هي مشنقة السلام مع الفلسطينيين ولأي وعد سلام قادم. رغم ذلك، تحققت نبوءته التي عمل عليها، بتحقيق “سلام” مع دول عربية بعيدة عن الحدود الإسرائيلية، عبر “اتفاقات أبراهام” التي كرّست التطبيع مع عدة دول عربية، متجاوزاً تقديم أي تنازلٍ للفلسطينيين، وتجاوزت الدول العربية المطبّعة “مبادرة السلام العربية” التي التزمت بها في قمّة بيروت 2002.

لم يغيّر نتنياهو من خطابه السياسي، وهذا الخطاب الذي لا يريد أن يرى الفلسطينيين ليس وليد غضب ما بعد هجوم 7 أكتوبر الذي قامت به المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس، على مستوطنات غلاف غزّة، بل هو خطابٌ قارٌّ عند اليمين الإسرائيلي، الذي مثله بنيامين نتنياهو أفضل تمثيل في السنوات الثلاثين المنصرمة، والتي شغل فيها منصب رئيس الوزراء عدة مرات، إذ إنه أطول رئيس وزراء يشغل المنصب.

إن الزلزال الذي أوقعه هجوم حركة حماس في غلاف غزة، والذي كشف هشاشة خطاب الأمن الذي مثله نتنياهو خلال حياته السياسية، وهشاشة الإجراءات والتقنيات الأمنية والأسلحة الحديثة، والأسوار فوق الأرض وتحت الأرض التي بنتها إسرائيل في مواجهة غزة، والتي انكشفت ثغراتها أمام مقاتلين بأسلحة فردية مذهولين من انهيار الدفاعات الإسرائيلية التقنية والبشرية، ما مكنهم من إذلال إسرائيل وجيشها الذي لا يقهر؟! والمفارقة، أن غزة المحاصرة، والتي حرثتها الآلة العسكرية الإسرائيلية عدة مرات، وخاضت ضدها حروب متعددة، وحاصرتها لسنوات طويلة، جاءت حكومة نتنياهو بعد الفشل الأمني الذي منيت به، لتقول إن هذا الهجوم، هو عملية «إبادة لليهود»، وكأن الفلسطينيين هم الذين يحتلون إسرائيل، ما استدعى رداً عسكرياً إسرائيلياً متوحّشاً ما زال مستمرّاً من الجيش الأكثر تطوراً وتسلحاً في المنطقة.

على العكس من التوقع الذي يفرضه أي تفكير عقلاني، من أن لا حلول عسكرية لمشكلات سياسية، لكن إسرائيل، لا ترى القضايا إلا عبر فوهة البندقية، وأن قتل الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة هو التعبير الأمثل عن أمن إسرائيل، كما افتخر إيتمار بن غفير وزير الأمن والأكثر تعبيراً عن حقيقة إسرائيل وإجرامها. واليوم تزيد هذه النظرة ضيقاً، وهو ما أنتج وينتج جرائم حرب ارتكبتها وترتكبها وسترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية التي جنت وتستبيح قطاع عزة وسكانه، في مواجهة العالم كله.

مقالات ذات صلة