في مواجهة جون لوك

مهنا الحبيل

حرير- استخدموا القوة مع الأطفال والعقل مع الرجال، فهذا هو نظام الطبيعة، والحكيم ليس بحاجة إلى قوانين”. جان جاك روسّو.

يعلن جان حاك روسّو معارضته الشديدة نظرية جدال الأطفال، التي شاعت في المجتمع، نقلاً عن الفيلسوف الأميركي جون لوك، يُعمّم بكل قسوة رفضه كل مساحة حوارية توجيهية أو تثقيفية مع الطفل، إلا ما تقتضيه دلائل إدراكه عبر الطبيعة، فما هي هذه الدلائل؟ هي استشعار الحاجة والاضطرار، محتجّاً بأن الطفل لا يعي قواعد العقل ولا التدبّر، فضلاً عن استنتاجات الحوار، أو التعامل مع التحذير، أو التحفيز بالمكافأة أو التهذيب بالعقوبة التربوية المناسبة لعمره، فيقول: عاملوا التلميذ بما يوافق عمره، وضعوه أولاً في مكانه الطبيعي، ولا تسمحوا له بالخروج.

يقول روسّو “كيف يعي الطفل الدلائل لملكات الإنسان الذي لم يصل لها”، وهو ما يعترضه سؤال مهم، هل هذه الملكات في التفكير في مستويات عمر الطفولة المختلفة، تُخلق مع الطفل ابتداء، أم مع بلوغه. عُنفُ روسّو التقريري يصوّر الأمر وكأن الطفل كتلة جسم يولد مُصمتاً، وليس كائنا أخلاقيا في ذاته، يولد على الفطرة ومحبّة الخير وكراهية الشر. ولذلك يُروّعه الصراخ في وجهه، ويُقرّبه الابتسام والرفق، فتنعكس دلائله على ذاته، ويكبُر بها. .. فهل كان روسّو عنيفاً في رفض نظرية جون لوك، لكون نظرية جدال الأطفال قد تحوي توجيهاً روحياً، وهو ما يفهم من سياقه؟ يرفض روسّو هذه الإشارات الروحية بقوة، بحكم أن لوك أصلاً كان مبشّراً دينياً قدّم تسامحه بناءً على هذه القاعدة الروحية، وكافح التشدّد الديني، رغم أن لوك سقط أيضا كما سقط الآخرون، من فلاسفة غربيين في عالم الاستعباد، وملاك المستوطنات البشرية، وبالتالي، كان تسامحه عنصرياً، وليس إنسانياً مهما بدت مبادئه رائعة، وهي زاويةٌ مركزيةٌ أخرى مهمة لنا في رؤية الشرق.

المهم هنا أن روسّو بعد أن جَرَد كل أسئلة التوجيه للطفل، لماذا يجب أن يفعل هذا أو يترك ذاك، كسؤال ابتدائي عنده، يسعى الأب والأم أو المربّي إلى دفع ملكة التنبّه له، يُعلن بطلان كل مسارات هذه الأسئلة والحوارات، وهو أمرٌ غريبٌ للغاية، بل إن مساحة الإدراك الإيماني: من نحن يا أبي أو يا أمي، كيف جئنا من خَلقنا، من هو الخالق، لماذا نحن هكذا ولماذا الآخرون ليسوا مثلنا، ولماذا لا يشرب الأطفال الكحول، ولماذا يشربها الآخرون.

هي أسئلة في الأصل تُحاوَرُ كمنهج تعليمي متدرّج مفتوح، ينشأ عليه الطفل بحسب قيم والديه، فنبذها حسب ما يدّعي روسّو من دون تدريب للفهم وللعلة، والسبب لا يفيد الطفل، بل العكس، فهو يُفقده فرصة زمنية مهمة وحسّاسة لاستكمال دورة وعيه، في حلقاتٍ منتظمة. المهم فيها لغة المراعاة والرفق، والتبيين المناسب لمرحلته العمرية.

هنا في هذا الفصل يُظهر روسّو موقفاً نفسانياً مضطرباً. نعم قد يُفهم غضبه خشية على الطفل من أن يُكلف عقلياً بما لم يكلّف به فطرةً، وهذا صحيح. لكن أين المقياس والمدار لرفض حوار الأطفال، ودعوته إلى أن يتعايشوا مع حالة واقعية ملزمة لهم، من دون تساؤل وتبيين، هذا يضرّ بهم أكثر. ولذلك لدى روسّو أزمة شعورية متعاقبة، منذ حياته الشخصية، ثم بأس المجتمع المنحطّ ضده. وهنا لا نقصد التكرار في تتبع أزمته، وإنما في الإشارة المهمة لها، في رحلة فلسفته، خصوصا أنها اعتُبرت مصدراً عالمياً، ونحن نناقشها اليوم من منظور علم الاستغراب.

ويُدلل روسّو على رفضه بأن ذلك الحوار مع الطفل قد يدفعه إلى النفاق أو الجفاف، لأنك تقرّر معه ما لا يفقهه، وهذا إطلاق غير صحيح، فهناك فرقٌ بين اللغة التي تقهره أو تقمعه، ولغة تُفهِمه وتعطيه مساحة لوعيه وتجاوبه، وربما كان المدار الذي يُصّر روسّو على مواجهة جون لوك فيه، هو التفهيم الفكري المتقدّم، فروسّو لم يحدّد هنا مقطعاً يُجادَل فيه، ولكن انفجار مسألة الدين والحق الإنساني، ودخول الاستبداد بينهما، هو جامعٌ مشترك لأسئلة الفلاسفة ذلك الوقت في الغرب التنويري، ولذلك هو يتحدّى لوك نفسه أن ينجح في جدال الطفل.

يجادله على ماذا وفي أي مسارٍ وكيف، هنا يرتدّ السؤال على روسّو نفسه؟ ولكن ذلك لا ينفي صحّة ما ذهب إليه روسّو، أن التهديد القمعي للطفل يُشعره بطغيان المُربي، أو يدفعه إلى نفاقه أو الطمع في هديته، فهناك مساحة ضرورية في ضبط مسطرة الجدال والحوار مع الطفل، لكن ذلك لا يعني أن الطفل لا يُمكن أن يستشعر روح القانون مع المجتمع أو الأسرة، بصورةٍ مبسّطة، فهو هنا قانون استشعار، لا قانون كراهية وقهر.

وروسّو حريص دوماً على أن يتعمّق إرث الطبيعة في الطفل بتعلقه بوالديه، عبر القوة كما يقول لا عبر السلطة، ولكن الفطرة الغائبة الحاضرة عن روسّو هي من يربط الطفل بالحب والرحمة، حتى في مقدار العقوبة الصغيرة، كالحرمان من الحلوى مثلاً، أو التوبيخ المنضبط بإظهار تألّم والديه من تصرّفه، وهي رباط جميل مقدّس في ميراث كل الإنسانية، لكنه مهدّد من فلسفة الحداثة وما بعدها، فماذا سيفعل روسّو لو نظر إلى جريمتها الكبرى في عالمنا اليوم.

وروسّو محقٌّ في تحذيره من التعامل بالكذب على الأطفال، بعدم وجود الشيء الذي يطلبه وهو موجود، لكن مساحة الحوار مع الطفولة تحتاج للتورية والتمويه بالضرورة. وفي تقرير روسّو أن إبلاغ الطفل بأنه لن يُعطى ما يطلبه لكونه لا يناسبه، يعلمه الصبر والتحكّم، وهو يناقض أساسيات رفضه في جدل الأطفال، فهذا الحوار جدليٌّ أيضاً. كما أن تحذيره الصحيح من تحويل الطفل إلى السيد المُطاع بالمطلق، أيقونة مهمة لاستقرار حياته، وعدم دفعه إلى روح السيطرة والاستحواذ، ولكن هذا الأمر يحتاج قاعدة حوار مع الطفل رفضها روسّو.

مقالات ذات صلة