قراءة في مسلسل مدرسة الروابي للبنات

الكاتبة العُمانية أمل السعيدي

أصدرت منصة نتفليكس إنتاجها لثاني الأعمال الدرامية الأردنية هذا الأسبوع وهو مسلسل «مدرسة الروابي للبنات» بعد العمل الأول الذي لاقى سخطًا كبيرًا من قبل المشاهدين في الأردن والعالم العربي وهو مسلسل «جن». قوبل مسلسل الروابي بموجة الاستياء نفسها وإن كانت أقل مما واجهه مسلسل «جن»، مما دعا البعض للتفكير في أن الإنتاج الأردني يعتمد على نوع «الدعاية السيئة» التي تحفز المشاهدين لمتابعة العمل. لكن هل كان المسلسل بهذا السوء فعلاً؟

تقدم الدراما الأردنية سواءً عبر الأفلام، أو عبر المسلسلات في مسارين، الأول حياة البدو على اعتبار أن هذا ما تطلبه المهرجانات الدولية، الذي قد يلقى جوائز لأن الجمهور متعطش لتثبيت نظرته الاستشراقية عن هذا الموقع من العالم، أما المسار الثاني فهو أفلام طبقة الأغنياء ممن ينتسبون إلى مدارس خاصة، ويتحدثون بالإنجليزية، ولديهم مشاكل تشبه تمامًا مشاكل أشخاص يعيشون في دولة الرجل الأبيض. ينبثق من هذا السياق سؤال عن موقع الحياة اليومية المعاشة في مناطق الأردن، وهواجس الطبقة المتوسطة والعاملة فيها، والكثير من التطلعات حبيسة الظروف التي يرزحون تحت وطأتها ومكانها من الأعمال الدرامية الأردنية.
يتقاطع المسلسل مع إنتاجات رائجة على المنصة المنتجة ذاتها من مثل مسلسل 13 reasons why والمسلسل الإسباني Elite إذ تدور أحداث هذه المسلسلات الثلاثة في مدرسة ثانوية، يتعرض فيها الطلاب للتنمر، والانسحاب من مجتمع الطلبة العنيف، مما قد يؤدي للانتحار أو الرغبة في الانتقام. وجميع هذه المسلسلات تحمل قدر الرداءة نفسه، إذ تعتمد المعالجة الفجة والمباشرة، ليس هذا فحسب بل إن الإنتاجات الأجنبية تصمم على معيار الصوابية السياسية، إذ تسعى لتمثيل مختلف الطبقات، فالمسلسل الأسباني «النخبة» يقدم طلبة مسلمين، وطالبة محجبة، وغير ذلك من تمثيل للاختلافات الجندرية والطبقية، وكأن الدراما هي فرصة لفرض واقع ديمقراطي، مع أنه من الممكن أن تسهم بالفعل الأعمال الدرامية في صناعة صورة ذهنية عن طبقة ما، لكن صناعة العمل مع فرض هذه الأجندة عليه غالبًا ما يقلل من إمكانياته الفنية. السيناريو والسياقات التي يخلقها هي ما ينبغي أن يفرض اتجاهات العمل، لا معايير السوق القيمية، التي لا مناص أنها سطح يخبئ تحته واقعا تمييزيا فاشيا.
ومع ذلك فإن صناع مسلسل الروابي، يريدون إقناعنا أن المسلسل خاص بمجتمع الأردن، كيف يمكن ذلك عبر تعبئة المسلسل بالقضايا التي سيحب الأجنبي مطالعتها، وحتى تكون بمثابة حاجز للرد على كل من تسول له نفسه انتقاد المسلسل لأنه قدم رسائل في قضايا محلية مهمة، ضربتان بحجر واحد، لذا فإن المسلسل في حلقاته الست يقدم لنا نقدًا لاذعًا للتنمر، والتحرش، وعدم قدرة الأسر على احتواء أبنائها والتواصل معهم، وجرائم الشرف، ومعايير الجمال، ومكانة السلطة ونفوذها وقدرتها على الضغط على المؤسسات العامة والخاصة.
وتبدو شخصيات العمل في الأربع حلقات الأولى شخصيات مسطحة مفرغة من تناقضها، فهي إما خيرة أو شريرة، كلاهما في اتجاه متطرف، ثم ما يلبث ودونما سابق إنذار أن تصبح شخصيات مركبة، فالشخصيات الخيرة يداخلها بعض الشر والعكس صحيح، دون مبررات درامية كافية، وتكتفي المعالجة الدرامية بفرض نوع من السردية الساذجة والتقليدية عن مآلات الأشياء ودوافعها، فالفتاة المتنمرة إما لأنها مقموعة في البيت، أو أنها مهملة أو والدها سكير، وكأن الحياة في الواقع بهذه البساطة، أما الفتاة الطيبة «النيرد» فهي تنتمي لعائلة يبدو أنها من الطبقة المتوسطة، وهي عائلة محبة، الأب فيها يطبخ الغداء بينما الأم تعود من عملها، في اتجاه صارخ نحو التنميط.
تعتمد هذه المسلسلات لا على قضاياها كما يحب صناعها أن يقولوا لنا، بل على أيقونة الشخصيات، وجعلها نموذجًا لإشباع الرغبات التي يعرفون أنها قابلة لأن تُشترى، فشخصية نوف التي تلعبها الممثلة الأردنية ركين سعد التي أدت دورها بشكل ممتاز، التي تمثل فتاة بوهيمية، بتقليعة شعر متناغمة مع مظهرها الخارجي، ومع شخصيتها الانسحابية، فهي فتاة غاية في الذكاء طردت من مدرستها؛ لأنها اخترقت شبكتها ووصلت للامتحانات النهائية، لا لأنها تريدها من أجلها بل من أجل مساعدة الطلبة المحتاجين، فلابد أن تكون الشخصية أخلاقية، وتمردها الظاهري على قدر من التوافق مع معايير أخلاقية المجتمع السائد. لا شك عندي وأنا فتاة من هذا الجيل بأن هذه الشخصية هي ما يتوق له كثيرون منا. وبالفعل إطلالة على حسابات التواصل الاجتماعي تخبرك عن قدر التفاعل الكبير مع شخصية نوف والتغزل في جمالها؛ لأنه «جمال خاص» يتسق مع دعوات السوق النيوليبرالية اليوم الذي يرى في النمش وفي الملامح الخاصة جمالًا آخاذًا. وفي الانسحاب الاجتماعي مسحة على العمق والاكتفاء.
ليكمل المسلسل طريقه في الأيقونة والاستثارة فإنه يستخدم background من الموسيقى الأندرجرواند العربية، الراب، والأغاني الطافحة بالاعترافات والسخط من قبيل «ما لقيت صاحب واحد، ما لقيت موجة تبحر بيا لبعيد» فهنالك حاجة لحشو السياق الدرامي بالمشاعر الطافحة القابلة لأن تثير وتستهلك، ولا أقول بأن هذه الأغاني ليست جميلة، لكنها تستخدم في العمل ببساطة لتحفيز المعنى المباشر، بدلاً من بذل جهد في صناعة حالة حقيقية غير عابرة ولا تعتمد على الإثارة.
قد تكون إحدى المقولات الجاهزة التي تقال في معرض نقد مسلسل عربي، بأن هنالك نوعًا من كراهية الذات والنجاح، وبأننا يمكن أن نقبل ببساطة العمل نفسه إذا ما أنتج في أمريكا أو أوروبا، لكن نوعًا خاصًا من الضغينة يطفو على السطح لمجرد أنه إنتاج عربي ولهوايتنا الأثيرة في انتقاد أنفسنا، لا أعرف لِمَ يريدون الانحياز لمثل هذه الفكرة ربما لأنها مريحة، مع أنهم يتجاهلون تمامًا توقنا لأن تمثل حياتنا عبر الفن، وتوقعاتنا بتحسن الإنتاج العربي، وقدرته على التقاطع مع واقعنا وآمالنا، ربما سيعتبرون هذا الكلام أيضًا دعوة للنخبوية، فما أعرفه جيدًا عن مشهد الإنتاج العربي في كافة الصناعات الثقافية والفنية، أنها مستعدة لتجيير أي نقد في صالح بقائها معافاة في مكان بعيد لم تطله يد العابثين إما من الحاسدين أو من المثقفين النخبويين.
مع دخول المنصات المدفوعة لسوق الإنتاج في العالم العربي نعلق آمالاً كبيرةً، لكن ردود الفعل على مسلسل «رشاش» على منصة شاهد، والمسلسلات العربية من قبيل مدرسة الروابي للبنات على نتفليكس قد يعيد النظر في مسألة قدرة التمويل على تحسين هذا القطاع، فيبدو أن رأس المال لهذه المحطات لا يكترث كثيرًا بعملية التحسين هذه وفي ظل عدم المنافسة، ربما سنستمر لسنين قادمة في التعرض لهذا النوع من الإنتاج الرديء.

– جريدة عُمان

مقالات ذات صلة