
الاحتلال يتكلّم مع نفسه بمرآة سوداء
يحيى بركات — مخرج وكاتب سينمائي
يحيى بركات
اعترافاتٌ لا تُشبه «الندم»… بل خوفًا من انهيارٍ يقترب
افتح خيالك على مصراعيه: شاشة واسعة، أصوات متقطّعة من مقالات وبرقيات وتصريحات. الكاميرا تتقدّم داخل بيتٍ مضطرب: كتّاب إسرائيليون، جنرالات سابقون، أكاديميون، ويهود في أوروبا وأميركا. كلٌّ يلتفت إلى المرآة… لكنها هذه المرّة مرآة سوداء؛ ما تعكسه ليس صورةً تُجمّل، بل شقوقًا تمتد من السقف إلى الأساس.
جدعون ليفي يكتب بوضوح: إمّا أبارتهايد دائم، أو ديمقراطية واحدة بين النهر والبحر. إيهود باراك، الذي قاد الجيش والحكومة، يحذّر من مصيرٍ مزدوج: لا طابع يهودي ولا ديمقراطي. روجل ألفِر يتحدّث عن شرعية الخروج من البلاد وكأن الهجرة صارت برنامجًا سياسيًا. غادي أيزنكوت، الجنرال، يقولها ببرود: غياب القرار الإستراتيجي يجعل الحرب بلا نصر. هذه ليست يقظة ضمير، بل لغة إنذار داخلي. بيتٌ يرى جدرانه تتصدّع.
شلومو ساند زلزل الأسطورة العرقية في كتابه «اختراع الشعب اليهودي»، ليكشف أن القومية الحديثة اختلقت ماضيًا ذهبيًا. إيلان بابِه أعاد تعريف 1948 كتطهير عرقي مؤسِّس لا كحادثة عابرة. نورمان فنكلستين سمّى ما يجري في غزة باسمه: جرائم جسيمة، إبادة، برعاية أميركية. هذه الأصوات ليست فلسطينية، إنها من قلب المطبخ الإسرائيلي والغربي، لكنها جميعًا تصرخ من خشية النهاية.
في المقابل، يترنّح جدار الحماية الدولي: بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال تعترف بدولة فلسطين، فرنسا وبلجيكا تلوّحان بالخطوة نفسها. الاتحاد الأوروبي يناقش تعليق الامتيازات التجارية. جامعات تقطع التمويل. مهرجانات موسيقية وسينمائية تغلق الأبواب. يوروفيجن مهدّد بالمقاطعة. شركات سلاح تُلغي صفقات بمئات الملايين. الصورة الذهنية لم تعد تحتمل مساحيق التجميل.
كل هذا لا يصدر عن رحمة، بل عن خوف. خوف من أن يتحوّل الأبارتهايد إلى كلمة رسمية في بيانات الأمم المتحدة. خوف من أن يصبح الاحتلال عبئًا اقتصادياً وثقافياً على الغرب نفسه. خوف من أن يستيقظ الداخل الإسرائيلي على حقيقة أنه يعيش في قلعة محاصرة لا يثق حتى بجدرانها.
هكذا وصلنا إلى لحظة نتنياهو:
لم يعد هناك “إسرائيل–بيريز”
بأحلام الاندماج الناعم،
بل “إسرائيل–إسبارطة”،
دولة السيف والعزلة، دولة الذعر التي لا ترى في العالم سوى عدو.
وكلما تمادت في القتل، ازداد انكشافها، وكلما زادت في التهديد، اتسعت الهوة بينها وبين حلفائها. هذه المرآة السوداء لا تعرض ندمًا، بل انهيارًا يتقدّم.
الصدمة ليست في ما يقوله الفلسطيني، بل في ما يكتبه الإسرائيلي عن نفسه. حين يقول جدعون ليفي: “لا خيار سوى أبارتهايد أو ديمقراطية واحدة”، وحين يعترف إيهود باراك أن “الاحتلال يلتهمنا”، فهذا ليس أدب معارضة، بل تشخيصٌ لجثة حيّة تأكل أطرافها. الاحتلال لم يعد فقط أداة سيطرة على الفلسطيني، بل صار سرطانًا داخل الجسد الإسرائيلي نفسه: ينهش الديمقراطية، يفتّت العقد الاجتماعي، يسرّع عزلة اقتصادية وثقافية لا مفر منها.
التحليل البارد يقود لنتيجة واحدة: المشروع الاستعماري وصل إلى مرحلة الانقلاب على ذاته. إسرائيل التي وُلدت لتقسيم المنطقة، وجدت نفسها منقسمة في داخلها: أشكناز وسفارديم، روس وفلاشا، علمانيون وحريديم، يمين ديني متطرّف يبتلع كل ما تبقى من “دولة” كانت تُسوّق نفسها ذات يوم كواحة ديمقراطية.
ومن الخارج، حيث كانت إسرائيل جزءًا من “العائلة الغربية”، صار خطابها عبئًا على حلفائها. أوروبا التي صمتت عقودًا بدأت تتكلّم بلغة العقوبات. أميركا نفسها تشهد تصاعد معارضة داخلية من طلاب الجامعات إلى الكونغرس.
أما الفلسطيني، الذي حاولوا إخفاءه تحت شعار “أرض بلا شعب”، فقد تحوّل إلى معضلة وجودية. ليس لأنه يملك جيوشًا جرّارة، بل لأنه لا ينكسر. كل جيل يولد ليحمل الحجارة أو البنادق أو الكاميرا أو الأغنية. وكل جدار يُبنى يسقط أمام جيلٍ أكثر عنادًا.
النتيجة واضحة: التطبيع لم يُنقذ إسرائيل ولن يُنقذها. الأنظمة قد تساوم، لكن الشعوب لا تُشترى، والعالم حين يرى الدماء لا يتذكّر “الابتكار الإسرائيلي” بل يتذكّر دير ياسين وخان يونس وجنين وغزة.
المرآة السوداء إذن ليست مجرد صورة رمزية. إنها إعلان فشل: فشل الأسطورة، فشل القوة العمياء، فشل التحالف مع الزمن. إسرائيل تتحدث مع نفسها، لكن الحوار الداخلي صار أشبه بكتابة وصية. وصية تقول: “الاحتلال يلتهمنا… والعالم لم يعد يصدّقنا.”
وللفلسطيني، هذه ليست دعوة للاطمئنان، بل دعوة لاستكمال الحلم الوطني. فحين ينكشف العدو أمام نفسه، تكون الفرصة لصياغة البديل: دولة حرة، مدنية، ديمقراطية، تُبنى على صمود الدم لا على أوهام القوة.
هنا الصدمة الحقيقية: الإسرائيلي يرى مرآته سوداء، والفلسطيني يرى نفسه حيًّا في كل مرآة.
يحيى بركات — مخرج وكاتب سينمائي
23/9/2025
#فلسطين #غزة #نتنياهو #إسرائيل #الاحتلال #المرآة_السوداء #Palestine #Gaza #Israel #Netanyahu