حماس بين المعادلات الصعبة في لبنان

يقظان التقي

حرير- تملك حركة حماس تأثيرا في لبنان، وجاءت زيارة رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية الثانية إلى بيروت في توقيت حسّاس مع إطلاق صواريخ من جنوب لبنان على الأراضي الفلسطينية المحتلة، تحت عنوان “نصرة الأقصى”، ولا يفهم هذا السلوك ،على طبيعته الحقيقية في بلد الانهيارات، ما يعمّق من سوداوية الصورة. إذا كانت صورة “حماس” في زيارة هنية الأولى، سبتمبر/ أيلول 2020، عبرت عن قدرة الحركة على التواصل مع السلطة الرسمية والأحزاب اللبنانية، وأكدت على أهمية العلاقات الفلسطينية – اللبنانية ، وبميزاتٍ خاصة على صعيد التقارب بين الجانبين، فإن الزيارة الثانية زادت من أشكال التوتر في القضايا العالقة بين الرأي العام اللبناني وحزب الله، فتتجاهل الحركة قيم التعايش والحوار التي دأبت على ترويجها، والتكافل في مواجهة عدو اسرائيلي مشترك.

تحمل صورة هنيّة مستوى من التعالي والتمثيل على البروتوكول وقواعد الاحترام والاعتراف بالحركة، وسط لامبالاة حزب الله وقيادته التي تفكر كثيرا في المواجهات الفوق وطنية والعابرة للحدود، وعبر التشكيك في قدرات دولة عنصرية/ فاشية على الحدود تتقدّم تكنولوجيا وعسكريا، وسط السعي إلى إنهاكها بأوضاع مستجدّة، “وحدة الجبهات”. يقدّم الحزب نفسه القادر على ضبط الوضع جنوبا، وحامي لبنان، وحافظ ثروته النفطية في اتفاق الترسيم البحري، ويرفع سقفه في الملف الرئاسي، وأنه الطرف الوحيد ومن ورائه إيران الأقدرعلى تقديم ضماناتٍ لأي طرفٍ دولي أو عربي، أو تغيير المعادلة في أي وقت.

نجح حزب الله في تعزيز مكانة الاستلاب (البرّانية في الداخل، في الوقت الذي يوضع الداخل في الخارج) في تحوّل “حماس”، فانطلقت الصواريخ على حدود الزوال لدولة ضعيفة. تاريخ جُرح ما عاد يسرُد شيئا، ولا يحيل إلى شيء، طوبولوجية سياسية لحربٍ من نوع آخر. تاريخ سياسي ناجم عن علاقة معقّدة تميزت بشنق القضية الوطنية. أوضاع اللبنانيين وحساسيتها ليست مفتعلة، ليتجاهلها هنيّة في زيارة هيولى (حماس لاند السبعينات)، تذكّر بمغامراتٍ عسكرية استدعت الاجتياح الإسرائيلي واحتلال بيروت العام 1982. حركيّة لا تحمل أفكارا، غير ما يتعلق الأمر بالانقياد لصورة تختفي في المعطيات ووسط الأشياء، ونسق العالم ونظامه، تخدم مصالح الجماعات المتطرّفة على الجبهتين وتعيد تنظيم جبهة نتنياهو الداخلية.

ولكن النتائج في مكان آخر، قد تطيح قرار مجلس الأمن الدولي 1701 (العام 2006) الذي رسم قواعد الاشتباك بين لبنان والدولة العبرية، وتدمير أي فرص للاستثمار في لبنان، ولأهداف أخرى تطاول تخريب أفق التسوية والاستقرار في المنطقة. “حماس” لا تفعلها جيدا، وتبتعد عن أدبياتٍ أرساها الحوار اللبناني الفلسطيني، ونظرية التأثير المعتدل. ظهر لافتا مقدار الأهمية التي أولاها حزب الله لزيارة هنية وتوظيفها في أغراضه السياسية والعسكرية، ووقائع متعلقة بمستقبل عملية الدمج في تحالف عسكري، وتصوّرات مشتركة تغذي اصطفافات (السياسات الإقليمية الجديدة في المنطقة ليست أيديولوجية)، ولا تؤدّي إلى إنهاء الانقسام، وإنجاز المصالحة وتحقيق الوحدة الوطنية. ومن دون النظر في أوضاع أبناء المخيمات الفلسطينية على ضوء تداعيات الأزمة الاقتصادية والمعيشية.

تتسم الصورة الذهنية التي عكستها زيارة إسماعيل هنية لبنان أخيرا بانعدام الثقة في بنية (وأفكار) المجتمعات والمنظمات التي يحاول حزب الله التأثير بها، حين يضع “حماس” في واجهة الأخطار والأخبار، وقلب الموازين الداخلية. وكالعادة، ينجح في إضفاء الطابع الدرامي على الأحداث، ويتيح فرص الربط مع خلفيات نشأة “حماس” والعمل الإخواني الفلسطيني سنة 1975، والفترة التي بدأ فيها نشاط تنظيم الحزب، تتبعا لمؤتمر الحركة السياسية العام 1983، وتشكيلاتها العسكرية 1986، وبعد اندلاع الانتفاضة 1987، حيث ظهر اسم حركة المقاومة الإسلامية حركة تنظيم عالمي، والتي لا ترى في منظمة التحرير الفلسطينية ما يعكس التمثيل الحقيقي لحجم القوى السياسية والشعبية على الأرض . منذ ذلك الزمن، رافق الانقسام السياسي والنضالي العمل الوطني الفلسطيني، وساهم فيها عدم التوافق على أبرز القضايا، كالقدس واللاجئين والاستيطان والحدود والسيادة (أوسلو 1993).

تعرّف حركة حماس نفسها في وثيقتها السياسية (2017) أنها “مقاومة وطنية إسلامية هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، وترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتتبنى الانفتاح على جميع دول العالم، وفكرها إسلامي وسطي، يقف ضد الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، وبالتالي نشاطها مركز داخل فلسطين”. جاء وجود “حماس” في لبنان عام 1992، وذلك حين أبعدت إسرائيل قادة من الحركة إلى الجنوب اللبناني، واختلطوا بالفلسطينيين المقيمين هناك، ونسجوا علاقات متينة مع مختلف القوى الفلسطينية واللبنانية.

وغالبا ما ركّزت الحركة لقاءاتها في لبنان على حماية حق العودة للاجئيين الفلسطينيين، والحرص على الأمن والسلم والاستقرار في لبنان، ومستقبل السلاح الفلسطيني، عبر تفاهم فلسطيني – لبناني في إطار حل سياسي متكامل، ما يخدم العلاقة بين الشعبين، وفي الحرص على إنجاح عمل لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، وهي “إذ تنأى عن التجاذبات السياسية لأي دولة، تؤكد استقلالها في اتّخاذها قرارها الفلسطيني الوطني”. هذا استنادا إلى إدارة الحركة لعلاقاتها السياسية بطريقة مؤسساتية، لم تلتزم بها أخيرا في لبنان، حيث “إن علاقاتها يجب ألا تتعارض أو تؤثر سلبا على المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني، وقضيته، وحرصا على رفض التبعية في أيٍّ من علاقاتها السياسية، على قاعدة التوظيف السياسي لصالح أجندات تتعارض مع مصالحها الأوسع”.

يأتي ذلك كله معقّدا، ما يوحي بأن الحركة صارت شريكا سياسيا وتنظيميا وماليا مع الحزب وإيران والنظام السوري، قياسا على مواقف سابقة أثّرت على احتجاجات سورية، وترجمت سابقا علاقات أفضل مع دول معنية، مثل قطر وتركيا، وإن على مسافة مع المحور السنّي الآخر، السعودي – الأردني المصري.

لطالما كان حزب الله وحماس حليفين مقرّبيْن منذ 2011. وهو دعم مشروط، فاذا بها غير قادرة على احتكار الرواية وحدها، وتتحوّل نسيجا من استراتيجيةٍ يرسمها حزب الله، في ظل سيولة يمرّ بها المشهد الإقليمي، وربما تغطية على المصالحات الضرورية لطهران. لبنان في صورة الضعيف، إزاء حركيّة فلسطينية، قد تُضاف إلى ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”. وهذا يعني أن “حماس” ترتكب أخطاء بالتخلي عن براغماتيتها في اعتبار ملفّ لبنان منفصلا عن ملفّ خدمتها لمصالح سورية وإيران، ومدعوة إلى مراجعة تجربتها وبياناتها، والشباب الفلسطيني في الداخل يمثّل نظراتٍ جديدة بقوة حضور فائقة، أمام الرأي العام العربي والدولي، ما يتطلّب مواجهة أخرى، ومن طبيعة مختلفة. صورة، على حماس مراجعتها وتنقيتها، فلا تقف ضد إرادة الشعوب العربية، وبانتظارها تحدّيات أخلاقية وسياسية، والكل يتحرّك في إطار معادلات صعبة، فتغامر حين تعمّق من خلافات فلسطينية – فلسطينية، بذورها موجودة في المخيمات، وهي مصدر حذر من اندلاع شرارات حربٍ أهليةٍ جديدةٍ في لبنان، فتتحوّل من مسؤولة عن الوضع السيئ في غزة 2007 إلى الوضع الأكثر سوءا في لبنان 2023.

مقالات ذات صلة