رفح في مزاد الحرب والمفاوضات

ليلى الشايب

حرير- يلعب رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، بأعصاب حلفائه وخصومه، بتهديده المستمرّ بشن عملية عسكرية في رفح، يرى أنه بدونها لا يتحقّق هدفه الكبير بالقضاء على حركة حماس قضاء مبرما، ويردّ عليه أغلبهم برفض العملية بعدما بدأوا يدفعون فعليا ثمن حربه البشعة على غزّة والتي لم تتوقف بعد، رغم مطالبات عالمية واسعة بوقفها، أما حلفاؤه الأقرب، والذين يدعمونه في هدفه ويعتبرونه هدفا ومصلحة مشتركة بينهم، فيطلبون منه تقديم خطّة تضمن لهم تجنّب قتل المدنيين وإحداث أضرار كبيرة كالتي أحدثها في غزّة… بمعنى: اقتل ولكن بعدد أقل، ودمّر ولكن بقدر أقل يُحدث ضجيجاً أقلّ، ويصرف نظر العالم ويقلل بالتالي خسائرهم السياسية. ويأتي ردّ نتنياهو كل مرّة بأنه وحده من يعرف أين تكمُن مصلحة إسرائيل وكيف تتحقق، وأنه لا ينتظر أحدا ليقول له ما ينبغي أن يفعل ولا حتى الولايات المتحدة التي قال لرئيسها جو بايدن، بعيد زيارة خصمه ومنافسه اللدود وزير الدفاع بني غانتس إلى واشنطن، إنه يتوقع منه أن يقضي بنفسه على حركة حماس لا أن يعيد تشكيل حكومة إسرائيل! ولننتبه جيداً إلى أن إعلان البيت الأبيض عن فكرة إنشاء مرفأ بحري على شاطئ غزّة لإنزال المساعدات لسكان القطاع المنكوب، حدث في أثناء زيارة غانتس المثيرة للجدل.

كيف تستخدم ورقة عملية محتملة في رفح في هذه الحرب القذرة وتقلّباتها؟ … لا يكاد يمضي يوم تقريبا لا يكرّر فيه نتنياهو تهديده باجتياح رفح، مع تجديد في الصياغة، إذ صرّح في واحدة من أواخر تهديداته بأنه سيذهب إلى رفح رغم الرفض الدولي لهذه الخطوة. و”قد أعطى تعليماته بالفعل للاستعداد لها”، وكلما تقدّمت مفاوضات تبادل الأسرى أو صدر عن حركة حماس موقف ثابت في نقطة من النقاط التي تعتبرها حكومة نتنياهو غير قابلة للتنفيذ، ازدادت وتيرة الضغط بورقة اجتياح رفح، في نبرةٍ يريدُها أن تظهره في مظهر رجل الحرب الذي لا يرمي سلاحه وسط المعركة، ويذهب إلى آخر نقطة بما يقتضيه أمن إسرائيل الذي هو وصيٌّ أمينٌ وشجاعٌ عليه، وسياسيٌّ مستعدٌ لإغضاب أقرب الحلفاء “من أجل الوطن” وصورة الجيش، وحكيمٌ يعلم شعبه الصبر عند تحقيق الأهداف الصعبة…

أما على الضفّة الأخرى، فقد وجدت واشنطن في عملية عسكرية محتملة في رفح فرصة ثمينة لترميم بقايا صورتها التي تلطّخت تماماً في الحرب، صورتها شريكاً كاملاً و”موثوقاً” لدى إسرائيل، في قتل سكّان غزّة وتدمير حياتهم في بعديْها المادي والرمزي والتخطيط للبدائل في أرضهم: من يحكمهم وكيف يديرون حياتهم وكيف يعيشون، وبعد خمسة أشهر من المجازر والمآسي التي لم يسبق لها مثيلٌ في التاريخ الحديث، إذ بالرئيس بايدن يستخدم لأول مرّة عباراتٍ من قبيل “الخط الأحمر” فيضع هذا الخط بين إسرائيل وبين نيّتها التوجّه إلى رفح لاجتياحها. وفي السياق، وضْعُ قيود على إمدادات الأسلحة إلى تل أبيب وتحريك بعض لجان الكونغرس لصياغة قرار بشأن هذه القيود. … بين عشيةٍ وضحاها، بدا الأمر برمّته في خطاب واشنطن أقرب إلى تجاوز أهوال غزة، المستمرة بالمناسبة، والاكتفاء بالحديث عن حصيلتها الصادمة من عدد القتلى الذي تجاوز الثلاثين ألفا وعدم الاستعداد لقبول المزيد أو لأيّ مشهد مشابه له في رفح، ولا يلبث هذا الخطاب، أمام ردود نتنياهو، وتوصيات المستشارين والاتصالات المحمومة بين تل أبيب وواشنطن أن يخفّض نبرته ويبدي بعض التفهّم غير المعلن، فيطلب من مجلس الحرب والحكومة تقديم خطّة لعملية رفح تضمن حماية أرواح المدنيين والمنشآت أو البنية التحتية المدنية، وهو طلب غير قابل للتحقيق لأن نتنياهو لن يخنق نفسه مسبقا بأي التزمات أو تعهدات، ولكنه طلب أقرب إلى تبرئة ذمة واشنطن وشهادة على حرصها على حياة الأبرياء يمكن أن تشهرها لاحقاً في وجه كل من سيؤنّبها على مأساةٍ جديدةٍ في رفح… ثم، وفي غمرة مجاعة بدأت تطلّ برأسها بين الناجين من الموت قصفاً أو رمياً بالرصاص، يأتي الحديث عن ميناء الرئيس بايدن الذي وجّه جيش بلاده بإنشائه على ساحل غزّة ليغطّي على صورة غزّة المدمّرة، أو هكذا أريد لهذه المبادرة أن تكون لتستحوذ على جل التركيز والاهتمام والتغطية الإعلامية، فتكون المعادلة على النحو التالي: إسرائيل تقتل بالسلاح الأميركي وتجوع بمنع فتح المعابر أو حرمان الجائعين من الحصول على ما يلقى عليهم جواً من مساعدات، بفتح النار عليهم، ثم تأتي الولايات المتحدة لتطعمهم وتسكّن جوعهم بخطوة مبتكرة “بطولية” هوليوودية لم تعرقلها إسرائيل.. وعلى هذا المنوال تتبادل الحليفتان الأدوار وتسديان الخدمات بعضهما لبعض، فيما يوحي الجدال الكلامي بينهما، في ظاهره، بوجود خلاف حقيقي. والحقيقة أن الأمر ليس كذلك بطبيعة الحال وإنما اختلافٌ بشأن حساباتٍ تكتيكيةٍ قصيرة المدى.

كما عدّلت واشنطن نبرتها، تبعتها الجوقة الغربية في هذا التحوّل اللفظي بالإجماع تقريبا على عدم وجاهة فتح جبهة جديدة في رفح، عبّر عنها مسؤول السياسة في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بعباراتٍ غير “ديبلوماسية”، فتساءل، وهو ينتقد دعوة نتنياهو إلى إجلاء سكّان مدينة رفح “إجلاؤهم إلى أين؟ إلى القمر؟”، من دون أن يغيّر ذلك من الالتزام الأوروبي بالدعم الكامل لإسرائيل في سعيها إلى القضاء نهائيا على “حماس”.

وفي خضمّ هذا المشهد المركب وفيض التصريحات، يجدُر التنبيه إلى عدم الخضوع لأيٍّ تخدير محتمل تحت مفعول رؤية سكّان قطاع غزّة يحصلون أخيراً على الطعام والاحتياجات الأساسية الأخرى التي افتقدوها بشدّة خلال الأشهر القاسية التي مضت، فيما قد تُصبح رفح فعلياً بؤرة القتل الجديدة إذا ما نفذ نتنياهو تهديده في مسار هروبه المستمرّ إلى الامام لتفادي الأسوأ في مصيره السياسي والشخصي.

أما مصر التي حكمت عليها معاهدة السلام بالحياد (العسكري)، وحكمت عليها الجغرافيا وعوامل أخرى كثيرة معلومة باللاحياد، فوجدت نفسَها في هذه الحرب بالذات، أو هكذا أرادت، تتحرّك في مساحة الخوف ومحاولات إبعاد الخطر عن حدودها إلى أبعد مسافة ممكنة ودقّ ناقوس الخطر باستمرار من اتساع رقعة الصراع، وأن يفصل بين مدينة غزّة والأراضي المصرية، وتحديداً شبه جزيرة سيناء، شريط حدودي طوله 14 كيلومتراً يعرف بمحور فيلادلفيا. والحال أن المسافة بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية التي يهدّد نتنياهو باجتياحها، لا تتجاوز 1.9 كلم لا أكثر، ويتكدّس فيها حالياً مليون ونصف مليون فلسطيني تتساءل مصر مثل غيرها: إلى أين سيرحلون إذا مضت إسرائيل في خطّة اجتياحها؟ ولكنه تساؤل مصحوب بالتحذير وبالتهديد أحيانا، فكيف وهي التي وضعت معبر رفح في وضع هلامي، لا هو مفتوح ولا هو مغلق، خشية تعرّض قوافل المساعدات والطواقم المرافقة لها للاعتداء من دون أن تستطيع الدفاع عنها أو ضمان عدم التورّط في أعمال عسكرية غير محسوبة، وخشية تدفق جماعي للفلسطينيين إلى داخل الأراضي المصرية من دون أن تستطيع منعهم ومنع حدوث أعمال شغب وفوضى… وفي كلتا الحالتيْن، يبدو الوضع على حافّة الانفجار، لذلك لا يخلو تصريح مصري في الآونة الأخيرة، تقريبا، من رفض أي دخول عسكري إسرائيلي إلى رفح، رغم ما يدور في كواليس مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى من إغراءات للجانب المصري بأن العملية ستريح مصر من كابوس الأنفاق التي تزعم إسرائيل أنها تمتد إلى داخل التراب المصري…

ويغطّي على الموقف المصري عنوان بالبنط العريض: لا نتحمّل مزيداً من المهجّرين، ونرفض من حيث المبدأ عملية تهجير جديدة للفسطينيين تحت أي مسمّى. ولأن الوضع الاقتصادي في مصر لا يتحمّل مزيدا من الضغوط… ولأن الممولين والمسيطرين على الهيئات المانحة والمُقرضة تقتات عادة من الأزمات، ولا ترى في أوضاع الدول التي تحتاج الدعم الاقتصادي والمالي إلا ما يخدم مصالحها، فقد التقطت في المواقف والتصريحات المصرية هذا التذمّر، وهو حقيقة تؤكّدها تقلبات سعر الجنيه وارتفاع الأسعار والتململ الشعبي المتزايد جرّاء ذلك كله، فجاءت الوعود لمصر متزامنةً تقريباً من صندوق النقد الدولي، ومن الاتحاد الأوروبي بما يزيد على 16 مليار دولار بين قروض ومنح، وهو ما دفع بعضهم إلى الربط بينها وبين عملية رفح والتهجير المحتمل لسكّانها والمحتمين بها من جحيم غزّة… وهو السيناريو- الكابوس الماثل أمام أطراف هذه المأساة.

ما الذي سينزع فتيل حريق جديد في رفح؟ والسؤال الأهم: هل يحقّق اجتياح غزّة مصالح أطراف تبدو متنافرة متخاصمة، وهي في الحقيقة متوافقة في أهدافها. وبالتالي، لن تبذل مساعي حقيقية لمنع عملية “جراحية ضرورية”، كما تتفق على وصفها في ما بينها؟… وفي الأثناء، تبقى رفح في حكم المؤجّل لتصحّ فيها كلمات الشاعر علاء نعيم الغول…”للموت غيم عابر فوق المدينة/ آه يا رفح الذين تناثروا في الشوك في أحضان ذاكرة ممزّقة/ ولون دماء من ذبحوا على مرأى من البحر القعيد”…

مقالات ذات صلة