من المسافة صفر

حلمي الأسمر

حرير- التاريخ يوم الرابع من يونيو/ حزيران 1967. كان عمري عشر سنوات، بدأ أبي بلملمة متعلقاته من “الخص” المنتصب وسط المزرعة، وهو أشبه ما يكون بالعرّيشة المكونة من القش وأعمدة البوص. قال لي إنه لا بد من العودة إلى البيت، فالحرب على وشك الاشتعال. لم أفهم حقيقة الأمر، مضى وهو يسحبني من يديّ للوصول إلى خط سير السيارات، كي تقلّنا إحداها إلى البيت. وفجأة، قال لي إنه نسي شيئا في الخصّ، وطلب مني إحضاره، عدتُ أدراجي إلى الخصّ، وأحضرت ما طلب مني، وفي اللحظة التي تحرّكت فيها من الخص عائدا إلى أبي، سمعتُ دويّا هائلا ملأ الكون حولي. رفعتُ رأسي إلى السماء بحثا عن مصدر الصوت، كان ثمّة طائرة تطير على ارتفاعٍ منخفضٍ جدّا. هذا الوصف غير دقيق في الحقيقة، فقد أحسستُ أن مقدّمة الطائرة قريبة إلى حد أنني هُيئ لي أنه سيصطدم بأنفي، ولم أكن يومها أعرف معنى “المسافة صفر”. ومن الواضح لي اليوم أنها كانت على وشك صدْم أنفي، وأنها تطير على المسافة صفر مني. وأعقب هذا صوت أكثر رعبا من صوتها، هل كانت قنبلة أم انفجارا ما؟ لا أدري، كل ما أدريه أنني شعرتُ بالتلاشي بسبب الصوت الكوني الذي كاد أن يحوّلني إلى ذرّات غير مرئية!

وصلنا إلى البيت، وكان ثمّة ليلة ليلاء، لا أدري كيف مرّت. وفي الصباح كان القرار “النزوح” من مخيم طولكرم والتوجه إلى الجبال القريبة، لأن المخيم لم يعُد آمنا، هكذا قال الكبار. وفي الأثناء، حينما كانت جموع السكان “تنزَح” إلى الجبال، عادت الطائرة نفسها، التي كادت تصطدم بأنفي، وقصفت جموع النازحين المدنيين، ولم أكن أعرف حينها أنني سأعيش لأرى بعد 27 عاما المشهد نفسه، في غزّة، ومن المسافة صفر، بل أصفار، مرّات ومرات.

هو قائد الطائرة نفسه، وربما ابنُه أو حفيدُه، هو من قصفنا، سواء في الجبال المحيطة بمخيم طولكرم أو سهول قطاع غزّة وشوارعه.

(2)

وعلى سيرة القصف، يُلاحظ شيء غريب في أخباره، والأماكن التي تقصدت طائراتهم قصفها، فقد قصفت المدرسة الكويتية والمستشفى الأندونيسي، والمستشفى التركي، واللجنة القطرية لإعادة إعمار غزّة، والمستشفى الميداني الأردني، والمستشفى الميداني الإماراتي، ومدينة حمد وكل مقرّات الأمم المتحدة، ومدارس “أونروا”، ومستشفى المعمداني والكنيسة التي يضمها، والمدرسة الماليزية، وأبراج مدينة الشيخ زايد، فيما قصفت “محيط” المدرسة الأميركية شمال غزة، لا المدرسة نفسها، ومنزلا قرب المستشفى الأوروبي، لا المستشفى الأوروبي. أما بقية المستشفيات التي لم يرد ذكرها هنا فقد نالت ما نالت من القصف والتنكيل، وخصّ العدو مستشفى يحمل اسم “القدس” قسطا وافرا من البطش، فقد قصف، وتم إخلاؤه من المرضى وحوّله الجيش إلى ثكنة عسكرية. … هل كان ثمّة رسائل إلى الدول والمنظمّات التي تحمل أسماءها المدارس والمستشفيات الغزّية؟ ربما، وربما أثّرت علي أحاسيس “المسافة صفر” فشطّ بي الخيال.

(3)

سيمرّ وقتٌ طويل حتى نعرف كنه ما جرى ويجري في غزّة اليوم، ولمدة تقارب الخمسين يوما، فهذه حرب سمّتها قناة الحرّة، الأميركية “مفصلية” في العنوان الرئيس الذي يظهر على شاشتها، بعد أن كانت تسميها: “إسرائيل وغزّة: حرب جديدة”. وواضح هنا أن تطوّر مسار الحرب، وفق تقويمات القناة، تحوّل من مجرّد حربٍ جديدة، إلى حربٍ “مفصلية” ما بعدها لن يكون كما قبلها، بحار المنطقة تمتلئ بالغوّاصات وحاملات الطائرات الأميركية والغربية، وتبعتها منذ وقت مثلها الصينية تحسّبا “لاندلاع حرب إقليمية شاملة” كما يقال. وسبق مثل هذا ما كرّره الإعلام الروسي الرسمي عن الاحتمالية نفسها، والحقيقة أن هذه الحرب، بمعنى أو بآخر، هي حرب عالمية ثالثة، فقد قسمت العالم إلى قسمين، وثالث “صغير” حجما، قسم يقف بكل قوة مع المعتدي الصهيوني ويضخّ في دمه كل ما يقدر عليه من طاقة، (راحت أوكرانيا بين الأقدام!)، وقسم يدعم الضحية بالكلام، و”يبدع” بإدانته ووصفه بأقذع الصفات، من دون أن “يفلح” بإرسال قطرة ماء إلى العطشى أو رغيف خبز للجوعى. ولكن من باب العدالة، علينا أن “نشيد” في نجاح هذا القسم بإرسال ما لا يكفي من أكفان للموتى، حتى الأكفان لم تكن لتكفي في ظلّ “غزارة” القتل والقصف، أما القسم الصغير الثالث، فهو غريب فعلا، متخصّص بالطعن بالظهر، والتخذيل، وتسخيف المشهد. وفي باطن هذا الموقف، ينتظر الخلاص من كل ما تسمّى “مقاومة” لأنه يرى فيها كارثة إن انتصرت، تقوّض وجوده!

(4)

أجمل مسافة صفر ممكن أن تراها في حياتك، التي ترفع منسوب الأدرينالين الوطني في دمك، ذلك الفتى الأسطوري، التي يرتدي بنطالا رثّا، يحمل بيده متفجرة من إنتاج محلي، ويضعها، من مسافة صفر، في حضن الدبابة (الأكثر قوة وتحديثا وكفاءة في العالم)، ويعود إلى حضن النفق الحنون، ليحتضن رفيقه الذي ينتظره، ليذخره بمقذوفةٍ أخرى، وليكرّر المشهد نفسه، على نحو مستحيل، لا يمكن لأكثر العباقرة في العلم العسكري أن يفسّروا سرّه.

أسوأ ما في المشهد أن تشعر بالخذلان ممن يُفترض به أن ينجدك، ولكن الأسوأ منه أن تأتيك الطعنة، من مسافة صفر، في الظهر ممن كنت “تسيء” الظن به، وتحسب أنه يمكن أن يكون عونا لك، فإذ به يحاول الإجهاز عليك، فينطلق لسانك بقولة المتنبّي وقلبك ينزّ ألما:

وَسِوى الرّومِ خَلفَ ظَهرِكَ رُومٌ/ فَعَلَى أيّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ؟

مقالات ذات صلة