مِن التوحيدي إلى الذكاء الاصطناعي

عوني بلال

حرير- * من كان يتخيل أن أكبر اختراق سيحصل في علاقة الإنسان بالمعرفة سيبدو ارتدادا قروناً للوراء، وأن النمط الحواريّ الذي كان يهواه الأوائل سيعود من جديد نافذة الإنسان على العالم. كل ما وصلنا من أفلاطون كان تحديداً بهذه الهيئة السجالية التي يتحاور فيها شخصان؛ الجمهورية، المأدبة، دفاع سقراط، طيماوس وبقية اللائحة. تراثنا العربي يحمل أمثلة عديدة أيضا، منها عملٌ أثير نَجَم عن لقاء عَلَمين أدبيين في تاريخنا، وخلّف لنا كتاب “الهوامل والشوامل”، وكان فيه أبو حيان التوحيدي يطرح أسئلته ليجيب عليها مسكويه ببلاغة عالية ومعرفة عميقة.

* صحيح أن حواريات سقراط ومساءلات التوحيدي ليست مطابقة لحواراتنا مع برمجيات الذكاء الصناعي، لكن الفوارق هذه لا تحجب شَبَهاً كامناً: أن الحوار عاد مجددا مدخلا للفهم والتعلّم. تشابهٌ كهذا جدير بالانتباه لأنه أتى بعد انقطاعٍ طويل. وهو جديرٌ أيضا بالاهتمام للمسار الدائري الذي يخطّه ويعود فيه الجديد ليلتقي بالقديم. كان النشاط المعرفي حتى وقتٍ قريب قائما على “البحث” بمعنييه الحرفي والاصطلاحي، وليس مرتكزاً على السجال المتبادل مع شاشة من زجاج ومصطبةِ مفاتيح. وبهذا، تحوّلت الحاسبة من أداة توسّط معرفي تدلك على ما هو متاح، إلى مقاول نشيط، يبني لك ما تريد.

* من السهل على الصدمة التقنية أن تُعمي المرء عن طبيعة التحول الذي يجري. لا يقف الأمر عند تعظيم القوة المعرفية، كان الأمر في عالم الإنترنت -كما عرفناه دوما- أشبهَ بسوق مفتوحة تدخلها آملاً بتوفيق الله، وتطوف فيها على المحالّ وتعاين ما لديها، فيعجبك بعضها أو لا يعجبك شيء منها، وتظل متقلبا بين أجنحة المكان، يقودك بينها سمسار (نُسمّيه كنايةً محرك البحث)، وتأخذ تؤلّف بين البضائع المختلفة إلى أن تصنع منها ما تريد. لكن الأمر اختلف الآن، لقد هُدم السوق (أو يبدو في طريقه للهدم)، وبُني مستودع عملاق أسفل الأرض وُضعت فيه كل بضائع المحالّ، ولم يعد على السطح إلا رجلٌ واحد يجلس أمام مكتب أنيق ويفاتحك قائلا: كيف لي أن أساعدك؟ وعلى نحو سحري لا أعرف له مجازا، “يَصنع” الحكيم لك ما يظنه طلبك، فتنهره وتخبره أن هذا ليس ما طلبته تماما، فيعتذر بأدب جمّ ويغير فيما أعطاك، وتأخذ بمساجلته لتجد ما تريده يتبلور أمامك، رداً بردّ.

* ربما لم يعرف الإعلام مقولةً أكثر شيوعا من تلك التي صكّها المفكر الكندي، مارشال مكلوهان عندما كتب قائلا: الوسيط هو الرسالة. كثيرٌ من وهج العبارة الأصلي يبهت بالترجمة، لكن المعنى يظل حيا فيها: أن الطبيعة التقنية لأداة الاتصال تحكم طبيعة التواصل نفسه، فما يفعله التلفاز بالناس مختلف جدا عما يفعله المذياع، بغض النظر عن المحتوى الذي يقال بهما. لا يقف الأمر عند وسائط الاتصالات، بل يمتد حتى للمواصلات، فالطائرة لا تسرّع الانتقال بين المدن وحسب، بل تغيّر شيئا في ركّابها وحتى في المدن التي تطير بينها. كان ماكيفللي يتحدث عن الغاية التي تبرر الوسيلة، لكن مكلوهان يتحدث عن شيءٍ يكاد يكون معاكسا: عن الوسيلة التي تغيّر الغاية وتعبث بها. ومِن المؤسف أن رجلاً كهذا لم يعش هذه اللحظة التقنية الفارقة، فهي مثالٌ متطرفٌ على كثير مما كتبَه.

* لكن، ومرة أخرى، فكيف سيلوِّن هذا النمط “السجالي” طبيعة الإنسان وعلاقته بالمعرفة. ليس السجال هنا شكليا، فالبرمجيات التي باتت متاحة للجميع تحتجّ أحيانا على محاوريها، وتصوّب لسائليها، وتحذرهم وتنبههم وترفض أحيانا أن تتعاون معهم. لقد كان الحوار دوماً محلّ ثناءٍ وتقدير في التاريخ البشري بوصفه سبيلاً تعاونيا يتضافر فيه البشر ليحسّنوا فهمهم لأنفسهم ومعرفتهم للعالم، لكن الأمر يحمل اختلافا هذه المرة، لأن الحوار لم يعد بين التوحيدي ومسكويه، ومرآةُ التناظر الإنسانيِّ فيه انكسرت. الحوار اليوم هو مع آلة تقف على مجمل المعرفة البشرية، وتجيد حبك الجُمَل. ومهما بدا المشهد غامضا في هذه اللحظة، فالغالب أن شيئاً في جوهر الإنسان ومعنى المعرفة يوشك اليوم على التحوّل.

مقالات ذات صلة