النظام العالمي المخترق والمتّصل رقمياً

خالد وليد محمود

حرير- أصبح مفهوم “النظام العالمي المخترق”، في عصر التطور التكنولوجي السريع والترابط الرقمي، أكثر أهمية وحسماً لفهمنا الأمن العالمي. ففي كتابه “النظام العالمي المخترق: كيف تقاتل الدول وتتاجر وتتصرف وتتلاعب في العصر الرقمي” الصادر عام 2016، يستكشف خبير الأمن السيبراني، ومدير برنامج السياسة الرقمية والفضاء الإلكتروني في مجلس العلاقات الخارجية، آدم سيغال Adam Segal، تأثيرات الخطر السيبراني وديناميات القوّة المتصاعدة في العالم الرقمي.

من خلال التحليل المثير للتفكير، يسلّط سيغال الضوء على التحدّيات والفرص التي يوفرها عالمنا المترابط بشكل متزايد. فالنظام العالمي الذي “تم اختراقه” يتعمّق في المشهد المعقد للفضاء السيبراني، حيث تشارك الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية والأفراد في معركة دائمة من أجل السيطرة والتأثير والمزايا وخلق النفوذ في هذا الفضاء. يؤكّد سيغال على نقاط الضعف التي تنشأ من الاعتماد على التقنيات المترابطة، مع التركيز على العواقب المحتملة للهجمات السيبرانية على البنى التحتية الحيوية للحكومات واقتصاداتها. وبالاعتماد على أمثلة من العالم الواقعي، يوضح سيغال الطرق التي أدّت بها “العمليات الإلكترونية” إلى طمس الخطوط الفاصلة بين الحرب والسلام، والتجسّس والتجارة، والجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية. كما يسلّط الضوء على التهديدات السيبرانية المتصاعدة التي تقف وراءها وترعاها الدول القومية، بالإضافة إلى قدرات الفواعل من غير الدول في الفضاء السيبراني المتزايدة ونياتها لاستغلال نقاط الضعف في هذا المجال وتجييره لمصلحتها من أجل ممارسة النفوذ وتحقيق التفوق والتنافس في تعظيم القدرات الاقتصادية والدفاعية والعسكرية والأمنية.

بالإضافة إلى تسليط الكتاب على التكتيكات التي تستخدمها الدول الرائدة في الفضاء السيبراني، مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة، حيث تنخرط في التجسّس السيبراني، وسرقة الملكية الفكرية، والقرصنة والعمليات الإلكترونية التخريبية؛ فإنه يجادل بإعادة تعريف الحدود التقليدية للنزاع في المجال الرقمي، حيث تسعى الدول إلى اكتساب مزايا استراتيجية من خلال القوة السيبرانية. ويستكشف ديناميات القوّة والتحالفات التي تشكلها الدول لحماية مصالحها ومواجهة التهديدات السيبرانية. ويدرس سيغال في كتابه دور المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي، في تشكيل سياسات الأمن السيبراني وتأسيس معايير السلوك في الفضاء السيبراني، ويناقش صعوبة تتّبع الهجمات السيبرانية إلى الجهات المسؤولة وتحدّيات وضع استراتيجيات الردع الفعالة.

هذا ومع الاعتراف بالدور الهام الذي يلعبه القطاع الخاص والأفراد في مجال الأمن السيبراني، يستكشف سيغال آثار مشاركتهم؛ حيث يناقش التحدّيات التي تواجهها الشركات في حماية البيانات الحسّاسة وضمان سلامة البنى التحتية الحيوية من الهجمات السيبرانية. بالإضافة إلى ذلك، يسلط الضوء على أهمية التوعية الفردية في مجال الأمن السيبراني، وضرورة تكوين شراكات قوية بين القطاعين، العام والخاص، لمعالجة التهديدات السيبرانية بشكل جماعي.

يقدم سيغال في الفصول الأخيرة من كتابه رؤىً بشأن المسارات المحتملة للتعامل مع تحدّيات النظام العالمي المخترق. ويدعو إلى زيادة التعاون الدولي، وتطوير قواعد ومبادئ سلوك في مجال السيبرانية، وتعزيز الدفاعات في هذا المجال. يؤكّد سيغال على أهمية بناء المرونة والاستثمار في البحث والتطوير للبقاء في مقدمة التهديدات الناشئة. في النهاية، يدعو إلى جهودٍ جماعيةٍ من الحكومات والشركات الخاصة والأفراد لإيجاد مستقبل رقمي أكثر أمانًا ومستدامًا.

تأسيساً على ما تقدّم، يمكن القول إن “النظام العالمي المخترق” يعدّ استكشافاً مثيراً لطبيعة التطوّر المستمر لصراعات القوى العالمية في العصر الرقمي. إذ يفكّك آدم سيغال تعقيدات الأمن السيبراني، مسلطًا الضوء على التهديدات المستمرّة التي تواجهها الدول وضرورة التعاون الدولي والتفكير الاستراتيجي العالمي. كما يوفّر هذا الكتاب إشارة تحذيرية، إذ يحثّ القرّاء على التعرّف على ضعف (الأمن) في عالمنا المتصل بشكل متزايد، في حين يقدّم خريطة طريق للتعامل مع التحدّيات وتأمين مستقبل رقمي أكثر أمانًا. وفي ظل وجودنا على مفترق طرق النظام العالمي المخترق، يدعونا آدم سيغال إلى أن ندرك ضعف العالم المتصل الذي نعيش فيه. وفي الوقت نفسه، يقدّم لنا خريطة طريق للتعاطي مع التحدّيات وتأمين مستقبل رقمي أكثر أماناً، إنه يوفر أفكاراً حاسمة لصانعي القرار، وتوجيهات للشركات لحماية بياناتها وأصولها الرقمية، وتوجيهاتٍ للأفراد لأجل تعزيز وعيهم بأمنهم السيبراني.

الصراع السيبراني مسألة يصعب تتبعها، وغالباً ما يتم هذا الصراع بواسطة وكلاء By Proxy، وله نتائج يصعب قياسها. وعديد من الموارد الحاسمة لفن الحكم أصبحت في أيدي شركات التكنولوجيا العملاقة على وجه الخصوص. والهجمات السيبرانية اليوم تلحق بالاقتصاد العالمي ما يزيد على تريليون دولار سنوياً، فالقرصنة الإلكترونية، سواء المدعومة من الدولة أو التي تقوم بها فواعل أخرى من وكالات وأفراد قادرة اليوم على إيقاف استراتيجيات التجارة وتخريبها، وسرقة الملكية الفكرية، وزرع الفوضى الاقتصادية، وشل بلدان وبنى تحتية بأكملها. وهنا يكشف سيغال أن النظام العالمي الذي تم اختراقه بعد أن دخلت الإنترنت حقبة جديدة من المناورات الجيوسياسية ذات التداعيات والآثار الهائلة والمرعبة.

في نهاية المطاف، يعدّ كتاب “النظام العالمي المخترق” مصدراً غنيّاً بالتحليلات والملاحظات العميقة بشأن العالم الرقمي والتحدّيات التي يواجهها، فخلاصة الكتاب أشبه بدعوة إلى ضرورة التعاون والتحرّك الجماعي لمواجهة التهديدات السيبرانية المتزايدة والعمل سوياً، بغض النظر عن الجهة التي ننتمي إليها، لبناء نظام جديد يحمينا في عالمنا المتصل رقمياً.

مقالات ذات صلة