سليماني وبريغوجين وجهان لعمْلةٍ تكاد تكون واحدة

دلال البزري

حرير- الأول قاسم سليماني، إيراني، عسكري سابق. والثاني، يفغيني بريغوجين، روسي، مقاول ولائم. من الجيل نفسه. أربع سنوات تفصل بينهما. سليماني هو ابن “الحرس الثوري”، الذي أنشأه الخميني غداة الثورة الإسلامية، بسبب ريْبته من جيشه الرسمي، وريث الشاه. فكان رئيسا لفيلق القدس، المنبثق من هذا “الحرس”. وبريغوجين ابن بوتين غير الرسمي، لقبه طبّاخ بوتين. ورئيس شركة خاصة، عسكرية، اسمها فاغنر. ولا نعلم إن كانت الريبة الخمينية نفسها تجاه الجيش الروسي هي التي جعلت بوتين يشرف على نشأتها، ويأمر وزارتي الدفاع والمالية بتمويلها؛ على الأقل في بدايتها، كما في حالة فيلق القدس. ولكن المؤكد أن الاثنين، “الشركة” و”الفيلق” تحوّلا، بفضل هذه الحظوة “الحكومية”، إلى بؤر ثراء.

وبحسب كل الوقائع التي كانا بطليها، يقوم الاثنان بمقاولات في الباطن لصالح دولتيهما. مقاولات فريدة من نوعها، فهما يتزعمان تنظيمين مسلّحين غير شرعيين، غير رسميين. وغرضهما دعم سياسة بلديهما عبر تكوين مليشيا واحدة، في حالة بريغوجين، أو مليشيات من مختلف الجنسيات في حالة سليماني. وما حاجة دولتين، الأولى نووية، والثانية في الطريق إليها… ما حاجة كل منهما إلى مليشيا؟ الأرجح أنها من ضرورات تغطية أعمال إجرامية تقودها هاتان الدولتان خارج أراضيهما، من دون أن تخضعا لأوجاع رأس القوانين والمعاهدات الدولية بشأن الحروب.

في الظاهر، يبدو سليماني نقيضا وجدانيا لبريغوجين، فهو حامل عقيدة ملالي إيران الشيعية، فيما نظيره من دولة ليست دينية بالمعنى المتعارَف عليه. لكن اللقاء “الفكري” يتجاوز ذلك. فبريغوجين قومي روسي، على طريقة بوتين. أي أنه يجمع بين كنيسة أرثوذكسية موالية لبوتين وحسْرة على أمجاد روسيا الإمبراطورية، السوفييتية منها والقيصرية. فيما الأول سليماني، فوق “دينيته”، ممتلئ كبرياءً بعظمة حضارة فارسية قديمة، يودّ هو أيضاً، مع وقادته، إعادتها إلى مجدها السابق. وهذا تشابه قليل أمام المحرِّك “الفكري” المشترك بين الاثنين. أعني تلك الأولوية الممْنوحة لكراهية مطلقة، أساسية، جوهرية، ضد الغرب وأميركا، ضد “الإمبريالية الرأسمالية النيوليبرالية”، أو “العوْلمة التكنو- رأسمالية المتوحشة”، كما يتفلْسف متحمّسون “أولويون”.

ومن أجل هذه الغاية “النبيلة”، يشترك المرتزقة الذين أنشأهم الاثنان في كل الحروب التي تخوضها دولهما. في سورية، التقيا للدفاع عن بشّار الأسد. وبعد سورية، أو قبلها، كانت لكل واحد منهما أدوار مماثلة. اعتقاداً لدى قادة الدولتين الداعمتين لهما أن هذه التدخّلات العسكرية تحمي “المجال الحيوي” لكليهما. أي تمنحهما، بعبارتٍ أخرى، توسّعاً هما بحاجة إليه لبعث إمبراطوريتهما المفقودة. ومع أن جماعة سليماني تتنافس مع جماعة بريغوجين على فوسفات سورية ونفطها، وما يمكن أن يُشلَّح من خيراتها، مقابل خدمة عرش الأسد … غير أنهما لا يتصارعان، فهما تابعان لدولتين متحالفتين.

مم تتألف قوات “فاغنر” وقوات “فيلق القدس”؟ “فاغنز” لمّت شَتاتاً رثاً من سجناء سابقين، أخرجهم بوتين منها، مقابل خدمتهم المغرية لأعماله الإجرامية، حول العالم. وللوهلة الأولى، يبدو ذلك فرقاً بينها وبين “فيلق القدس”، الذي يجنّد على أساس مذهبي، لا على أساس السجل العدلي. في المقابل، أينما وُجد شيعة، في المشرق، نجح سليماني بتنظيم أبنائه، وتأسيس مليشيات موالية لإيران، تعمل على أجندته بضميرٍ حيّ. يبدو هنا وكأن ثمّة فرقاً بين الاثنين: ولكن في الواقع لا. فسليماني اختار رجاله من بين الضعفاء في أوطانهم، وأفهمهم أن عزّتهم من عزّته. كما حصل في لبنان، حيث بدا حزب الله، صنيعة سليماني، أنه يرفع من شأن الشيعة اللبنانيين إلى ما لم يكونوا يحلمون به في ظل نظام طائفي، همّشهم. أما مليشيا “الفاطميون”، الأفغانية، العاملة هي الأخرى في سورية، فهي مؤلفة من مهجّرين أفغان شيعة، هربوا من بلدهم ولجأوا إلى إيران. وخضعوا لابتزاز سليماني، بأنهم إذا انضموا إلى مليشيات الإقليم، سوف ينالون شيئاً من كثيرٍ حرموا منه في لجوئهم.

سليماني وبريغوجين ابنا دول فاسدة، تنتمي إلى محور الدول الاستبدادية، تضم، فوق روسيا وإيران، كلا من كوريا الشمالية وسورية طبعاً، فوق عدد من الدول “المائلة” إليه، مثل الهند والبرازيل، تقودهم كلهم الصين التي يتشبّث حزبها “الشيوعي” الحاكم بأساليب ستالين التعسفية. وهذا محور صاعد، يهزّ الكيانات الضعيفة، ويلتهم روحها.

أما وسائل “الفيلق” و”الشركة”، فهي القتل. والقتل بالأسلحة البيض وبالفظائع، وبحرية مطلقة. رجال بريغوجين اشتهروا بالقضاء على سجنائهم بالمطْرقة. يضربون بها، ويضربون… حتى الموت. فيما رجال سليماني أبدعوا في الأشكال من الموت والحصار والتهجير في سورية. وإذا كان مصير سليماني هو القتل، وعلى يد أعدائه الأميركيين، فإن بريغوجين، بعد تمرّده على بوتين، مهدّد هو الآخر بالقتل، ولكن على الطريقة الروسية؛ أي التسْميم بلا أثر. .. ولكن التشابه الأعمق بين سليماني وبريغوزين يقع في قلب الميدان.

عودة إلى بضعة أيام خلت: لماذا تمرّد بريغوجين على بوتين وجيشه، بعدما كان “يخدم” أهدافه بغزو أوكرانيا خير خدمة؟ ولماذا كان محور خلافه معه أداء الجيش الروسي في أوكرانيا، ونقده بعنف، وإدانة عدم فعاليته، فقدانه الذخيرة، عشوائية خططه…؟ لأن الجيش كانت لديه خطة لإدخال رجاله إليه وإدماجه به، وبموافقة بوتين؛ بمعنى آخر، خطّة سيطرة الجيش على “الشركة”. أما لماذا هذه المحاولة للعسكر بتوحيد السلاح الروسي ضمن المؤسّسة الرسمية، فلا نعلم. ربما بحثاً عن احترام دولي، ربما بسبب منافسة الشركة الجيش في الساحة الأوكرانية، أو أي شيء آخر … والذي يجمع بين سليماني وبريغوجين هو تحديداً ذاك التعلّق بالسلاح المليشياوي. صنيعة سليماني في لبنان، أي حزب الله، بل “صديقه”، وشريكه في حروب خاضها هذا الأخير مع إسرائيل… هذا الحزب يواجه المأزق نفسه الذي عانى منه بريغوجين. أي نزع سلاحه وإدخال عناصره إلى الجيش اللبناني.

قام بريغوجين بتمرّده، فشل في الدفاع عن سلاحه، ودخل المنفى البيلاروسي. أما حزب الله، فهو ما زال على معركته الأولى: سلاحه. وهو الآن مزهوٌّ بقدراته “الإقليمية” التي تسمح له بتدمير لبنان، وإفقار شعبه، والقضاء على مستقبل أبنائه … مقابل احتفاظه بهذا السلاح.

هل نقرأ مستقبلاً ما في اسمي التنظيمين اللذيْن يقودهما الرجلان؟ سليماني “فيلق القدس”، وبريغوجين “شركة فاغنر”؟ أن يكتب للأول، “فيلق القدس”، مدَداً من فلسطين التي لن تعرف لا دولتين ولا حقوقاً، فيستمر بالازدهار؟ وأن يكون مصير الثاني، من مصير أدولف هتلر، الزعيم الألماني النازي المعجب بريتشار فاغنر، الموسيقار الذي أحيا جنون عظمته؟ وهو اسم لا يبدو منطقياً من البداية على كل حال، إذ يخدم رجال “فاغنر” الغزو الروسي أوكرانيا، تحت شعار “محاربة النازية الأوكرانية”. فهل يزول الاسم وشركته من الأرشيف، نظراً لهذا التناقض، أو نتيجة هزيمة بريغوجين في مسعاه للحفاظ على سلاحه، أو أشياء أخرى لا نعلمها؟

مقالات ذات صلة