منهج طارق البشري النقدي للحوار الإسلامي العلماني

سيف الدين عبد الفتاح

حرير- تشير الأوصاف المستقرّة والشائعة للراحل طارق البشري، باعتباره المؤرّخ والقاضي والفقيه والمفكّر، إلى مجمع التحقيق والتدقيق وتكاملية الحكم والموقف؛ وهو الحكيم أيضا. وكان النموذج الفكري الذي يمثله ارتحالُه ميزة نظرًا إلى تقلبه في عالم الاتجاهات والأفكار، فانتقد ذاته وقدّم مراجعاته قبل أن ينتقد غيره، فصارت عدالته في مواقفه وحكمه تملك مصداقية الكلمة في تمامها صدقا وعدلا. خبرته وحكمته جعلتاه يقيم خبرة الحوار في التفكير بالنهوض والتغير والإصلاح والفاعلية، فقارن في موقفه بين خبرتين؛ خبرة الحوار العلماني الإسلامي، وخبرة الحوار الإسلامي ـ القومي، وبينما أشار إلى فاعلية الأخير، قدّم بين يدي الأول نقدا عميقا للحوار العلماني الإسلامي.

تضمّن كتابه “الحوار الإسلامي العلماني” (دار الشروق، القاهرة، 1996) أربعة فصول تناول فيها الوفود العلماني، والوطنية العلمانية، وتغلغل التيار العلماني ووجه قصور الحركة الإسلامية، والحروب الفكرية، مفتتحا حديثه بالتأكيد أنه حيث يكون الحوار حول وجه من الوجوه التطبيقية ينفسح مجال اللقاء، وحيث يجري التصدّي المباشر للموضوع المجرّد يحصل التقلص والامتناع، ويحدّد طبيعة هذه العلاقة التي صاغها “الحوار بين الإسلام والعلمانية”، موضحا أنه قصد بالإسٍلام منهجا ينظر إلى الإسلام بوصفه أصل الشرعية ومعيار الاحتكام والإطار المرجوع إليه في النظم الاجتماعية والسياسية وأنماط السلوك، بينما العلمانية، بحسب ما يعتقد، هي إسقاط هذا الأمر، والصدور عن غير الإسلام وغير الدين في إقامة النظم ورسم العلاقات وأنماط السلوك، ويشير إلى أنه يعتبر أن المنهج العلماني قد وفد إلى بلادنا الإسلامية.

هكذا ظهر في بلادنا لأول مرة تيار علماني وطني، ورفع شعارا وقدّم مطالب تلتقي عليها الجماهير في بلادنا، وقد تعامل هذا التيار بحرص في البداية، عدا تركيا الكمالية، وسعى في استمالة الشعور الديني السياسي، ووصف البشري له بالعلمانية على أساس ممارساته العملية التي نزعت إلى هذا المنزع، وابتعدت عن التوجّهات الإسلامية في صورها التطبيقية، وقد واكب ظهور “الوطنية العلمانية” ظرفا تاريخيا خلت فيه الأرض من أي مؤسّساتٍ تجسّد آمال الوطنيين القائمين ضد الاحتلال والاستعمار في انتماء أشمل، عربيا كان أو إسلاميا. وهنا انشطرت الوجهة الوطنية والتفت الطموح الوطني من الشرق إلى الغرب، يختار من أنساق الغرب أسس نظراته إلى الاستقلال والنهضة، ويستلهم من الغرب تصوّره مدينته الفاضلة. يصف طارق البشري هذا الجيل بأنه معارضٌ للإسلام، ويبني مشروعه للنهضة المستقبلية على معايير الاحتكام الغربية، ويترسّم الأنساق الاجتماعية الغربية ويقرّها ويجري على محاكاتها في التنفيذ، وذلك كله بعيدا عن معايير الشرعية الإسلامية ومعايير الاحتكام المتصلة بها. في هذا السياق، بدأت الدعوة الإسلامية تتبلور في مناهج وأبنية تنظيمية لم يكن بقي من الأبنية السياسية القائمة ما يعبّر عنها أو يمثلها.

قدّم البشري تأريخا لنشأة هذا الوفود العلماني الذي بدأ صغيرا وأخذ ينتشر من دوائر المصالح الأجنبية إلى دوائر الحكم إلى المؤسّسات الحديثة والنماذج التطبيقية للإصلاح، إلى الأنساق الفكرية والرؤى الحضارية والمذاهب الفلسفية، إلى مؤسّسات التعليم والقضاء والإدارة والحركات الشعبية والقوى الوطنية، كما بين انحسار الموروث الإسلامي والتقليدي في المجتمع تأثّرا بهذا الوفود المزاحم في كل مجالات العمل الاجتماعي والنشاط السياسي والتكوينات الفكرية، ولم تبدأ فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حتى كانت واحدية الموروث الإسلامي قد زوحمت، وتوزّعت، واقتطعت منها الأراضي على كل صعيد للعمل والفكر وحركة المؤسّسات. وبهذا تحقّق شق طولي يصدّع المجتمع كله من الرأس إلى القدم، بين إسلامية موروثة وعلمانية وافدة، وهكذا آل الوضع إلى ازدواجية وثنائية واضحتين في كل ما يتعلق بأوضاع الحياة الاجتماعية، ومنها الحياة الفكرية، وصارت الجماعات السياسية تتشكّل وفقا لمعايير عدة، لا وفقا لمعايير واحدة.

يتحدّث البشري عن نطاق تطبيقي للحوار بين التيارين في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، ويؤكّد أن هذه الفترة لم تعرف الحوار بقدر ما عرفت الصراع الفكري. وفي مثل هذه البيئات، ينصرف الجهد لا إلى البحث عن مجالات الالتقاء والتقارب، ولكن إلى التفتيش عن وجوه الخلاف والتركيز على هذه الوجوه بحسبانها الحدود الفاصلة. وثمّة حرص لا على الاعتراف بنواحي القوة لدى الطرف الآخر، ولكن على التنقيب عن نقاط الضعف والعمل على توسيعها والنفاذ منها والتشنيع على الخصم بها، إضافة إلى البحث عن أمراض الطرف الآخر لمحاولة اغتياله منها، وهناك عدة خلاصات حول المدى الذي وصلت إليه الأساليب المتّبعة في الحوار / الصراع الفكري بين الجانبين:

تحويل الفكرة المجرّدة إلى فكرة مشخصة، أي ربط الفكرة المجردة بمؤسسة معينة، أو بفرد معين، أو بحادث تاريخي، أو سياسي معين. تحريف الفكرة، أي تعديل الرأي المضادّ لنقده، فلا يؤخذ القول كما هو، إنما يجري تعديل هيئته وصورته، أو أنه يزحزح عن موضعه فيقرّب ليصير في مرامي القذائف الفكرية للناقد. التشتت؛ وأهم صوره الفكري تشتت الواقع بمعنى تشتت فكرتنا ورؤيتنا للواقع، وكذلك تشتيت الأفكار والمفاهيم، أي إيقاع التضارب بين أجزاء الفكرة.

اهتمام طارق البشري بتلك الظواهر الملحقة بالحوارات الفكرية والثقافية سطّر فيها موقفه ورأيه، خصوصا أنها مثلت معارك ميدانية لهذا الحوار؛ ومن أبرزها الفتنة الطائفية، والمشروعات الاقتصادية والرصيد الدّيني الوطني العام، وأساليب الصراع حول توظيف الأموال؛ حيث بيّن في مسألة الفتنة الطائفية أن العامل الرئيس في إشاعة روح التعصّب، وتوليد الشعور الطائفي يتمثل في الإحساس بالخوف وفقدان الأمن الجماعي، موضحا أن ثمّة فريقين في مصر يعانيان من هذا العامل: التيار الإسلامي السياسي الداعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وجمهور الأقباط.

ووقف البشري هنا على عدة ملاحظات؛ أولها أن فقدان الأمن هو ما يولّد التعصب، وثانيها أن الأحداث التي شكّلت الفتنة منها ما هو غير واضح ومعقد، إضافة إلى حجم المشاركين في الحراك فالتصاعد في استخدام العنف يؤدّي إلى اشتمال مواطنين غير مشاركين في العراك، أما الثالثة فهي خاصة بموقف الأقباط من الشريعة الإسلامية، مطالبا بضرورة مواجهة قلق الأقباط في ذلك من جانبين؛ من حقّ الأقباط، بوصفهم مواطنين، أن يؤمنوا على مركزهم القانوني وحقوقهم ومستقبلهم، وأن تجري التفرقة الدينية بين أحكام الشريعة الإسلامية من حيث هي أحكام ثابتة بالقرآن والسنة الصحيحة والآراء الفقهية الاجتهادية التي يُؤخذ منها ويترك، ورابعها خاصة بأن “إنكار لوجود يدفع للعمل غير المشروع”، مشيرا إلى أن التيار العلماني لا يجحد فقط حقّ التيار الإسلامي في الظهور، ولكنه يجحد حقه في الوجود وفي الاستمرار في هذه الديار.

وكما أكّدت السطور أعلاه، تعطي خبرة البشري في محاوراته وكتاباته وتقلبه في الحياة الفكرية والثقافية لأحكامه النقدية ثقلا، فقد كان ناقدا تلك المقولات الفكرية لكل اتجاهٍ من داخله لا من خارجه، نظرة الطارق للفكرة لا الطارئ عليها وعلى دهاليزها وتضميناتها، فقيمة البشري وانتقاداته ليست فقط في حكمه، ولكن قبل ذلك في امتداد خبرته والتعلّم منها وعليها. ومن هنا، من المهم أن نتخذ من وصفه وأحكامه ومواقفه كفعل منهجي وليس مجرّد كلمة تقال أو شعار يرتجى؛ ولنذكّر هنا بمعايير تقييمه وتقويمه للخطاب والحوار المتعلق بالنهوض وطبيعة القضايا المرتبطة بحالاتٍ من الانفعال والافتعال والإغفال والانفصال؛ فكان ذلك كله مدخلا لحديثه عن أمراض الخطاب والحوار وعوائقه؛ قضايا مهمّة كانت موضعا لمبضع البشري النقدي ومنهجه في النظر إلى الظاهرة الحوارية المرتبطة بالحوار الإسلامي العلماني.

مقالات ذات صلة