كي لا تظل المبادئ مُعلّقة في الهواء

محمود الريماوي

حرير- شهدت القاهرة يوم الثلاثاء، 17 يناير/ كانون الثاني الجاري، قمّة ثلاثية جمعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وملك الأردن عبدالله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، وانتهت القمّة في البيان الختامي الصادر عن اجتماعها إلى التشديد على المبادئ التي ما انفكّت القمم العربية والاجتماعات الوزارية لجامعة الدول العربية تعلن عنها، مع التطرق لبعض المستجدات ومن أهمها: حل الدولتين بما يكفل إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، رفض الخطوات الأحادية التي تنعكس سلبا على هذا الحل، والتي تشمل الاستيطان وهدم البيوت والاقتحامات الإسرائيلية المتواصلة للمدن الفلسطينية، وانتهاك الوضع التاريخي والقانوني القائم في القدس ومقدساتها. واعتبار دائرة أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى المبارك/ الحرم القدسي الشريف، التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية الجهة الوحيدة المخوّلة بإدارة شؤون المسجد الأقصى المبارك وتنظيم الدخول إليه، مع الإشارة إلى ضرورة توحيد الصف الفلسطيني وإنهاء الانقسام، والإشادة بالجهود المصرية المبذولة للحفاظ على التهدئة في قطاع غزة وإعادة الإعمار، وأهمية استمرار المجتمع الدولي في دعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وضرورة توفير الدعم المالي لها. واتفق القادة على استمرار التشاور والتنسيق المكثف في إطار صيغة التنسيق الثلاثية المصرية – الأردنية – الفلسطينية على جميع المستويات، من أجل بلورة تصور لتفعيل الجهود الرامية لاستئناف المفاوضات.

ومع أن الاتصالات الأردنية الفلسطينية لم تنقطع، إلا أن الصيغة الثلاثية التي أشار إليها البيان، شهدت بعض الجمود في نشاطها، وعلى الأقل خلال العام الماضي 2022، وهو العام الذي عرف جموحاً إسرائيلياً في عهد حكومة بنيت ولبيد، وهي الحكومة التي رفعت يافطة التغيير، إلا أنه كان تغييرا نحو الأسوأ في مواقف تلك الحكومة من إحياء العملية السياسية، إذ تبنّت تلك الحكومة إقامة علاقات أمنية مع السلطة الفلسطينية مع طرح الموضوع السياسي جانبا، فيما قامت العلاقات الأمنية، حسب مفهوم تلك الحكومة، كما لدى الحكومات الإسرائيلية السابقة على ضمان أمن طرف واحد هو الإسرائيلي. أما أمن الفلسطينيين فلا قيمة ولا وزن له فهو خاضع للاعتبارات الأمنية الإسرائيلية.

وقد بدا الجانب الفلسطيني، طوال العام الماضي، فاقداً غطاءً عربيا ليس في المجال السياسي المتعلق بتوقف المفاوضات ومضاعفة الاستيطان فحسب، بل بما يتعلق بمختلف مجالات الحياة اليومية للمواطنين تحت الاحتلال.. وقد تركّز الجهد المصري، خلال ذلك العام، على إدامة التهدئة بين قطاع غزّة وحركة حماس من جهة وبين الحكومة الإسرائيلية من جهة. وحقق ذلك الجهد بعض النجاح، من غير أن تتوقف العمليات الإسرائيلية المتقطعة ضد القطاع والمراكز الحيوية فيه. ولم تنجح الجهود المصرية والجزائرية في وقف الانقسام، الذي يتحمّل مسؤوليته، بالدرجة الأولى، الطرفان الفلسطينيان المعنيان، وهو الانقسام الذي ازداد استعصاءً منذ سيطرة حركة حماس على القطاع بقوة السلاح في العام 2007.

لا بد أن القمة الثلاثية انشغلت بالتحدّيات الجديدة ممثلة بصعود التيارات الأشد تطرّفا في الدولة العبرية الى سدّة الحكم، ومخاطر ضم الضفة الغربية واعتماد القوانين الإسرائيلية فيها، وهو ما يشكّل، في واقع الحال، حلقة جديدة من حلقات شنّ الحرب على الشعب الرازح تحت الاحتلال، وذلك لاستكمال المخطط الصهيوني بالاستيلاء على كامل الأرض المحتلة واستباحة المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها. غير أن ذلك لم ينعكس على البيان المشترك، علما أن الجهر بالمواقف أمر مهم في حد ذاته، وإذا كانت أطرافٌ غربيةٌ منها أميركية أبدت رفضها التعامل مع وزراء متطرّفين في حكومة نتنياهو، كما حدث من جانب وفد من الكونغرس الأميركي زار الدولة العبرية أخيرا، فإنه، من باب أوْلى، أن تعلن الأطراف العربية المعنية مواقف تحدّ من اندفاع الموجة اليمينية المتطرّفة، وترفض التعامل مع أي طرفٍ يجاهر برفضه للسلام ويقرن أقواله بالأفعال.

وكان مؤمّلا بعد التشديد على المبادئ الناظمة للرؤية السياسية التطرق إلى قضايا عينية ذات أهمية، مثل “الإجراءات العقابية” التي اتخذتها حكومة نتنياهو في أول اجتماع لها، ومنها اقتطاع عشرات ملايين الدولارات من أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل في المنافذ نيابة عن السلطة الفلسطينية، إذ تكشف هذه الإجراءات عن الأسلوب الاستحواذي وغير الشرعي لسلطة الاحتلال، وبما يجفّف موارد السلطة الفلسطينية في وقتٍ شحّ الدعم العربي لها، وليس مطلوبا أن يبقى الدعم العربي على وتيرة عالية، وإلى ما لا نهاية، غير أنه مطلوب توفير دعم عربي يكفل للسلطة السيطرة على مواردها الذاتية، من غير بلطجة إسرائيلية تستند إلى تسييس العمليات الجمركية، بما يخدم الحرب الإسرائيلية المنهجية على الركائز الاقتصادية لوجود الفلسطينيين على أرضهم.

وبينما تباطأت حركة صيغة التنسيق الثلاثية المصرية الأردنية الفلسطينية خلال العام الماضي، وانخفضت وتيرة التواصل المصري الفلسطيني، فقد عرفت الفترة نفسها انضمام مصر إلى ما عُرف بملتقى النقب العربي الإسرائيلي، رغم أن هذا الملتقى قد جمع أساساً أطراف الاتفاقيات الإبراهيمية فيما كان مسار السلام المصري الإسرائيلي مثل نظيره الأردني مختلفا في سياقه. وقد رفض الأردن الانضمام لهذا الملتقى، من دون أن تتوقف المحاولات الأميركية للضغط عليه للانضمام لهذا الإطار الذي يضع العربة أمام الحصان.. عربة التعاون أمام حصان السلام، إذ يفصل التعاون الإقليمي عن تفعيل عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية وفق مرجعياتها الدولية. وقد كان من شأن السير الإقليمي في هذا الملتقى تهميش القضية الفلسطينية، وعلى أساس الفكرة القائلة إنه يمكن التعاون مع إسرائيل الحالية كما هي عليه، ومن غير أن تستجيب للمبادرة العربية للسلام (تطبيع مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة)، ومن غير أن تتوقف عن التهويد القسري للقدس والانتهاك اليومي لمقدّساتها الإسلامية والمسيحية. علماً أن المواقف المصرية كما يجري التعبير عنها في الأمم المتحدة وفي القمم العربية وفي بيانات الخارجية المصرية ترفض القفز فوق عملية السلام، ومكافأة المحتل على احتلاله، وتشدّد على أولوية تفعيل الحل السياسي.

تزامن انعقاد القمّة الثلاثية في القاهرة مع حادث تعرّض السفير الأردني في تل أبيب، غسّان المجالي، لمحاولة اعتراض الشرطة الإسرائيلية دخوله إلى المسجد الأقصى. وسارعت الخارجية الأردنية إلى اتخاذ موقف حازم، وبأقصى سرعةٍ ممكنة، ما أدّى لتراجع سلطة الاحتلال، وتمكّن السفير من الدخول إلى باحات الأقصى والصلاة في المسجد، مُحاطاً بموظفي وزارة الأوقاف وحرّاس المسجد، وتدلل هذه الواقعة الجزئية والرمزية على أن المواقف الحازمة والحاسمة وحدها التي تثني سلطات الاحتلال عن تعدّياتها وانتهاكاتها على مختلف الصعد، والمطلوب هو اعتماد هذا النهج في التعامل مع حكومة المستوطنين، بزعامة نتنياهو، لحملها على وقف نشاطها التوسّعي المدمّر، ونهجها العنصري والامتثال لأحكام القانون الدولي.

مقالات ذات صلة