بعثة المارينز إلى فلسطين والأردن 1848: المشاركة في استعمار البلاد

عمار الشقيري

غادر لينش الشواطئ الأمريكية مع بعثته يوم 26 تشرين الثاني 1847 متوجهًا إلى إسطنبول، مركز حكم الدولة العثمانية التي كانت تفرض سيطرتها على المنطقة، ثم تنقّل في بلاد الشام. وعندما انتهت البعثة، كان لينش قد دوّن يوميات أول بعثة أمريكية مدعومة من حكومة بلاده إلى المنطقة بالتفصيل، ونشرها في الولايات المتحدة سنة 1849.[3]

ظلّت هذه اليوميات غير مترجمة حتى نقلها إلى العربيّة المترجم جمال أبو غيدا تحت عنوان: «بعثة مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) لاستكشاف نهر الأردن والبحر الميّت 1848»، وقدّم لها المؤرخ الفلسطيني جوني منصور، وصدرت في آذار الماضي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 614 صفحة.[4]

يقدم هذا الكتاب، إضافة إلى مئات الكتب التي تتناول هذه المنطقة ونُشرت في أوروبا والولايات المتحدة، نظرة على أحد محرّكات الاستعمار في المنطقة، ويظهر التنسيق بين قنصليات الدول الأوروبية والأمريكية في زراعة بذور الاستيطان اليهودي في فلسطين قبل النكبة بمئة عام، كما يظهر كيف صوّر المستعمر سكان الأردن وفلسطين في منتصف القرن التاسع عشر.

أمريكيون مؤمنون، وبرابرة وثنيّون

حصل لينش في إسطنبول على فرمان خاص يصرّح لأعضاء بعثته بالمرور عبر الأراضي الخاضعة للسلطة العثمانية في بلاد الشام من السلطان العثماني عبد المجيد الأول (1823-1861). أبحرت سفينته التي حملت زورقين صغيرين إلى بيروت ثم شواطئ فلسطين، وهناك أُنزل الزورقان وجرّتهما الجمال برًا إلى طبريا حيث أبحر بهما أعضاء البعثة في نهر الأردن ثم البحر الميّت.

خلال هذه الرحلة، تجوّل لينش في فلسطين وعلى ضفتيْ نهر الأردن، وزار الكرك، وفي طريق عودته جال في سوريا وجبل لبنان وقابل السكان وتعامل معهم وذكرهم في يومياته.

اعتمد لينش في وصف السكّان في بلاد الشام بشكلٍ عام، والأردن وفلسطين بشكل خاص، على مشاهدته لهم، لكنه كان محكومًا بصورٍ مسبقة في ذهنه؛ صورة العربي الهمجي كما رسمها كتّاب أوروبيون مثل الفرنسي شاتوبريان (1768-1848)، وصورة العربي الذي يشبه الهندي الأحمر لحظة دخول كريستوفر كولومبس أرض أمريكا، وصورة العربي صاحب البشرة السمراء الذي يشبه السود الأمريكيين.

في الصور الثلاث، كان لينش يرى العرب كـ«غوغاء ورعاع»[5] كما جاء في وصفه لسكّان عكا، وملامح الفلاحين في فلسطين متوحشة، كما يصفها، ولون بشراتهم يماثل لون بشرة العبيد.[6] كما وصف الرجال في غور المزرعة بالأردن بأنهم «يشبهون الأفارقة بين البلاهة والخباثة»،[7] ثم يصف بعض العرب الذين التفّوا حوله لمشاهدة ساعته قائلًا: «قام معظم الحاضرين بتفحّصها بعناية وحرص، فكان حالهم كحال مجموعة من الهنود الحمر الذين يرون امرأةً للمرة الأولى في حياتهم».[8]

بالمقابل، ينصّب لينش كمعيار التطور الأمريكيين «الذين ابتكروا هذه الاختراعات الغريبة والميكانيكية المذهلة والماثلة بزورقينا ومسدساتنا ذات الطواحين السداسية الطلقات تارة أخرى»،[9] مستهزئًا بالبرابرة الذين رأوا الأسلحة والقوارب مع البعثة.

تُقدّم يوميات لينش لمحةً عامة عن بذور الأطماع الاستعمارية في المنطقة التي مهّدت لاحتلال فلسطين بعد مئة عام.

يصف لينش الأماكن في فلسطين والأردن بمفردات الرواية التوراتيّة؛ فمع أن بعثته كانت «علميّة» إلا أنه يصف أرض مؤاب بأنها «أرض سفاح القربى»،[10] ويعرّف مدن صفد وطبريا والقدس والخليل كأماكن مقدّسة لدى اليهود.[11] عندما انتهت بعثة لينش من أخذ قياسات البحر الميت وعمقه وقد أمضى فيه 22 يومًا  قال: «أجمعنا جميعًا [أعضاء البعثة] على الإيمان بمصداقية وصحة النصوص التوراتية التي سردت وقائع تدمير المدن الآثمة في هذا السهل».[12]

تعدّ هذه اليوميات جزءًا من مجموعة كبيرة من الكتب التي تندرج تحت مسمى رحلات إلى الديار المقدسة، أو كتبها رحالة وحجاج ومكتشفون ومبشرون وقناصل جاءوا من أوروبا وأمريكا. وقد وصل عدد هذه الكتب إلى ثلاثة آلاف كتاب نُشر عن هذه المنطقة منذ القرن الرابع الميلادي وحتى نهايات القرن التاسع عشر، ألفا كتاب منها نُشر في القرن التاسع عشر وحده.

وفّرت أدبيات الرحلات في القرن التاسع عشر «مادة مساعدة لصناعة قرار ورسم سياسةٍ استيلائيّة فعلية مباشرة، وغير مباشرة وبطرق مختلفة على المنطقة وما حولها»،[13] وقد عُدّ القرن التاسع عشر بالقرن الكولونيالي بامتياز.

بذور الاستعمار

تأخرّت الولايات المتحدة في إيفاد ممثل دبلوماسي لها في المنطقة مقارنة بفرنسا وبريطانيا، وقد سعت الدولتان إلى إقناع السلطات العثمانية بعدم ضرورة إقامة علاقة مع الولايات المتحدة خوفًا من تعرّض مصالحها التجارية في المنطقة للمنافسة.[14]

ومع ذلك نشطت الرحلات والبعثات التبشيرية والعلمية الأمريكية المدفوعة بالروايات التوراتيّة إلى فلسطين منذ بداية القرن التاسع عشر، وكتب هؤلاء الرحالة والمبشرون والمكتشفون تقاريرهم ونُشرت في الولايات المتحدة وقُرأت على نطاق واسع. ودَفعت هذه التقارير الكثير من الأمريكيين إلى إنشاء مشاريع لتوطين اليهود في فلسطين، مثل المشاريع الزراعية للمجتمع اليهودي في القدس وبيت لحم،[15] مدفوعين «بتقارير عن إعادة توطين اليهود في فلسطين» منتصف القرن التاسع عشر. كانت دعوة لينش إحدى هذه الدعوات التي تلخصت بقوله: «لن يستدعي الأمر أكثر من النجاح في تدمير طاقة تلك الإمبراطورية [العثمانية] التي جثمت على صدر المشرق كالعفريت طوال قرون عدة، بغية ضمان إعادة اليهود إلى فلسطين».[16]

تواصل لينش خلال رحلته مع قادته في الولايات المتحدة من خلال رفع تقارير مفصّلة إلى وزير البحرية الأمريكية، وكان طوال الرحلة على تواصل مباشر مع قنصل الولايات المتحدة في بيروت جاسبر تشاسود، بالإضافة إلى تعاونه مع يهود طبريا خاصّة الأغنياء منهم. كما عايَن أحد شواطئ يافا بهدف الخروج بتوصية لمدى نجاح إنشاء ميناء فيها، بناء على طلب نائب قنصل الولايات المتحدة في يافا، غير أن علاقته مع القنصل البريطاني جيمس فِن في القدس والذي عمل بشكلٍ ملحٍ وجديّ على توطين اليهود في فلسطين كانت الأكثر متانةً.

أمّنت القنصليّة البريطانية الحماية لبعثة لينش بسبب عدم وجود ممثل قنصلي للولايات المتحدة في القدس، وقد بدَا ذلك جليًا في طريق عودة أفراد البعثة بعد الانتهاء من استكشاف البحر الميّت إلى شواطئ فلسطين عندما اعترض أفراد تابعون لإحدى الزعامات الفلسطينية في الخليل طريق البعثة فتدخل فِن لتخليصهم، بالإضافة إلى ذلك أمّن فِنْ بعثة لينش بالدعم اللوجستي.

كان فِن الذي تقلّد منصب القنصل البريطاني في القدس في الفترة (1846-1863) مهتمًا بتقديم الحماية لليهود المهاجرين إلى فلسطين، وصدّق على مراسلاتهم الخاصة بتلقي الصدقات الآتية لهم من أنحاء العالم، وتدخل فِن نفسه في فك أي اعتداء على اليهود في خلافات يومية مع الفلسطينيين المسلمين أو المسيحيين. كانت التعليمات التي وصلت لفِن من حكومة بلاده العام 1839 تقتضي تقديم خدمات الحماية لأي يهودي «نمساوي أو فرنسي أو من أي جنسية أوروبية أخرى، وإذا كان قنصل بلاد هذا اليهودي قد تخلى عن حقه بتقديم المساعدة له فيجوز للقنصل الإنجليزي أن يتولى قضية هذا اليهودي».[17]

عبر ما سبق، تُقدّم هذه اليوميات لمحةً عامة عن بذور الأطماع الاستعمارية في المنطقة التي مهّدت لاحتلال فلسطين بعد مئة عام. ومع الحذر الشديد، تقدّم كذلك لمحة عن التاريخ الاجتماعي في فلسطين والأردن.

كما تقدّم اليوميات صورةً عن أنماط الزراعة على ضفتي نهر الأردن، خاصةً في الأغوار الجنوبية حيث زراعة الذرة والتبغ وبعض النيلة والحنطة،[18] إضافة إلى صناعة الحرير من تربية دودة القز في سوريا، وطريق تجارة الملح على الجمال من البحر الميت إلى غزة، وبعض أنماط الطعام مثل انتشار أكل الأرز مع اللحم. كما شملت اليوميات معلومات جغرافية عن الحياة البريّة في نهر الأردن وعمقه وروافده، وعمق البحر الميّت والأودية التي ترفده وأبعاده وعمقه، والأنهار والأودية في فلسطين.

ووثّق لينش في الكرك التي زارها زيارة قصيرة تعداد سكانها من مسيحيين ومسلمين، وعدد الكنائس فيها، وشكل عمارة البيوت، كما توقع في زيارته هذه وجود اتحاد قبلي في المنطقة يهدف للتخلص من النظام التركي وتأسيس دولة جديدة.[19]

المترجم أبو غيدا: ثلاثة كتب من القرن التاسع عشر

ازدهر نشر هذا النوع من الكتب في القرن التاسع عشر في أوروبا والولايات المتحدة، وإضافةً إلى ترجمة يوميات لينش هذه، ترجم أبو غيدا كتابين آخرين تناولا الأحداث في هذه المنطقة منتصف القرن التاسع عشر، وهما: «أزمنة مثيرة: وقائع من سجلات القنصلية البريطانية في بيت المقدس 1853-1856» للقنصل البريطاني جيمس فِن عام 2017، و«الحياة في بيوت فلسطين: رحلات ماري إلزا روجرز في فلسطين وداخليتها 1855- 1859» عام 2013، وهي شقيقة نائب جيمس فِن.

يقول أبو غيدا لـ«حبر» إنه ترجم هذه الكتب بعدما وجد نقصًا في المعلومات التي تتناول المنطقة تلك الفترة، بالإضافة إلى أن المشروع الصهيوني في المنطقة لم يبدأ فعليًا بوعد بلفور 1917 إنما في أربعينيات القرن التاسع عشر. وهو يصف محتويات هذه الكتب الثلاثة بأنها أشبه بالخطط السياسية. وقد ترجم ونشر أبو غيدا كتاب لينش والكتابين الآخرين على نفقته الخاصة بعدما لم يجد من يدعمه في نشرهما كما يقول.

يُؤخذ على المترجم اعتماده على ويكيبيديا في وضع هوامش الكتاب، ويبدو أيضًا أن كثيرًا من بحثه حول الهوامش اقتصر على البحث في الإنترنت. يبرّر أبو غيدا ذلك بالقول إنه ليس مؤرخًا ولا مترجمًا محترفًا؛ «[أنا] هاوي ترجمة مش أكاديمي لأرجع لمراجع محكّمة. الكتاب عملته بحب وشغف [حتى] أعرف عن فلسطين اللي سيدي وأبو سيدي عاش فيها».

لم يحسم أبو غيدا أمره في ترجمة كتاب جديد من القرن التاسع عشر تناول وصف مناطق في الأردن وفلسطين كتبه جيمس فِن بعنوان «دروب غير مطروقة»، لكن نية الترجمة عنده موجودة كما يقول.

أخيرًا، يقدم كتاب لينش هذا صورة أولية عن بواكير الاهتمام الأمريكي بالمنطقة، وساعد الكتاب إلى جوار كتب أخرى في بلورة صورة فلسطين في أذهان الأمريكيين وصنّاع القرار في الولايات المتحدة على أنها وطن اليهود.

تظهر هذه اليوميات أن لينش تعامل مع مناطق الأردن وفلسطين كما تعامل الغازون الأوائل مع أرض الهنود الحمر، إذ وصلت العجرفة بلينش إلى حد تعامله مع المنطقة كما لو أنها لم تسكن من قبل، فتخيّل البحر الميت شارعًا في الولايات المتحدة وأطلق على حوافّه أسماء رحالة أوروبيين تخليدًا لذكراهم؛ رأس كوستيجان، ورأس مولينكيس.[20]

بعد نهاية رحلته، وصَف لينش مسير قافلة البعثة: «لقد بدونا كأننا نشارك في مسيرة النصر التي يمشيها أفراد جيشٍ عاد منتصرًا للتو».[21

7iber – حبر

مقالات ذات صلة