عن حيّ الشيخ جراح ويعقوب الذي قال لنا كلّ شيء

أحمد عيساوي - كاتب لبناني

كلام يعقوب الذي لا يقتصر على اعتراف بسرقة المنزل الذي لا يمتلكه، بل يتجاوزه إلى حقّ “الاسبقيّة” في السرقة، تتزاحم فيه مفردات العمارة والمكان والزمان والهوية…

ثمّة كلامٌ كثير يمكن أن يُقال في ما ترتكبه عصابات المستوطنين الصهاينة مدعومةً بقوات الاحتلال في الأحياء الشرقية لمدينة القدس منذ بداية شهر رمضان 2021، فمشاهد العنف والبربرية المشحونة بالعداء تجاه المقدسيين تستعيد صور هبّات شعبية كثيرة، كانت هوية المدينة القديمة عنوانها الأول ومحورها الأساسي. لكنّ الانتفاضة الاخيرة تفرض لحظتها الاستثنائية : تلك التي تتكثّف فيها كل دلالات “التخلّي” العربي عن فلسطين بوصفها قضية تاريخية مركزية وتحيلها إلى واقع رسميّ مرّ لا صوت يعلو فيه فوق صوت التطبيع.

من بين جميع المقاطع المصوّرة التي يشاركها المقدسيون على شبكات التواصل الاجتماعي، ثمّة مشهد لا يشبه أيّ مشهد آخر، تفوّق على هتافات باب العامود وإزالة الحواجز، على قنابل المولوتوف، على الاشتباك من مسافة صفر، على كلّ ما يمكن عدّه شكلاً من أشكال المقاومة اليومية. ولهذا التفوّق البصري والفرادة الصوتية أسبابٌ لا علاقة لها بتمظهر العنف الجسديّ الذي يحتلّ مساحة واسعة من يوميّات الفلسطينيين. محادثةٌ من نصف دقيقة، تدور أحداثها في حي الشيخ جرّاح المقدسي بين مستوطن إسرائيلي اسمه يعقوب وسيّدة فلسطينية اسمها منى الكرد، يستنكر فيها يعقوب طلب الكرد مغادرة منزل عائلتها ويعلّل هجومه على البيت بعبارة “إذا لم أقم أنا بسرقة المنزل سيقوم غيري بهذا الفعل”.

لعبارة يعقوب معانٍ ودلالات كثيفة وفيها تتبلور مفاهيم كثيرة، كالجريمة والحقيقة والإنكار والسفالة. وهي إذ تنطوي على اعتراف واضح وصريح من المستوطن بفعل السرقة، فإنّها تقدّمه في إطار يجعل من هويّة السالب صاحب حقّ ومن المسلوب شاهداً على هذا الحقّ. قرّر يعقوب (المستوطن) أنه يمتلك القدرة على صوغ حقيقةٍ متخيّلة، تشبه إلى حدّ ما، في مقاربة الهزل والجدّ، رغبة يعقوب (النبي) في حصوله على البكوريّة في سفر التكوين وفي ذهابه إلى التحايل على بصر والده اسحاق وضعف أخيه عيسو وتعبه وجوعه، من أجل تحقيق ذلك. تحايل يعقوب على أبصارنا جميعاً في حي الشيخ جرّاح وقدّم مثالاً صارخاً على تاريخ دولة اسرائيل وحاضرها في نشأتها وقيامها على شعار الحقّ للقوة لا القوّة للحقّ وفي استمراريتها على ممارسات القتل والترهيب والتهويد. دولةٌ تنتقم بشكل يوميّ من البشر والحجر والشجر، لا يثنيها أحد، أو شيء أو قانون عن متابعة الجريمة المنظّمة منذ عام 1948.

كلام يعقوب الذي لا يقتصر على اعتراف بسرقة المنزل الذي لا يمتلكه، بل يتجاوزه إلى حقّ “الاسبقيّة” في السرقة، تتزاحم فيه مفردات العمارة والمكان والزمان والهوية: بيتٌ مقدسي تمتلكه عائلة فلسطينية بموجب اتفاق مبرم بين الحكومة الاردنية ووكالة الغوث عام 1956، يتعرّض لهجوم من قطعان المستوطنين في لحظة تسعى فيها إسرائيل إلى طمس هوية القدس وتفكيك كلّ صلاتها الاجتماعية وشبكاتها الأهلية كمقدّمة لإلحاق المدينة القديمة بمشاريع الضم الاستيطانية وتثبيت هويّة جديدة، يهودية، فيها. تلك الهويّة الاختزالية، الانتقائية والعنصريّة هي هويّة إسرائيل المبتغاة التي تقوم على ضرب هويّة أولى، أصليّة وراسخة.

على أنّ كلام يعقوب التافه والمستفزّ في آن، والذي واجهته منى الكرد بإصرارها على البقاء ورفضها أي تهجير جديد ونكبة ثانية، لا يعدو مجرّد تعبير ذاتي وفرديّ فيه خيانه لأساليب الإنكار المتكرّرة التي يلجأ إليها المستوطنون لتبرير استيلائهم على أراضٍ وممتلكات فلسطينية، بل ترجمة صادقة لخلاصات جمعيّة تعني عدم الاكتراث في ما يصدر عن المتلقّي في لحظة المواجهة أو في لحظة الاستكانة. ما يُقال اليوم في وجه 50 عائلةٍ مهدّدة بالطرد من حي الشيخ جرّاح بقرار من محكمة تابعة للاحتلال، يُقال بجرأة تلامس الوقاحة وبأسلوب يستدعي فيه المجرم كلّ معاني اللامبالاة وعدم الاكتراث للحقائق والوقائع.

ولعلّ قوّة المقطع المصوّر وبلاغة معانيه وكثافتها وحضور كلّ التناقضات فيه بين السالب والمسلوب، بين المجرم والضحيّة، بين صاحب الحقّ والمعتدى عليه، أكسبت المشهد فردانيّة خاصّة وجعلت بوح يعقوب أصدق تعبير عن معاش المقدسيين ومأساتهم.

مقالات ذات صلة