نظرات في رواية حنتش بنتش لمحمود عيسى موسى

بين الشعرية والسخرية والبكاء

بقلم الشاعر موسى صالح الكسواني

بعيدًا عمّا عهدناه في أسلوب الكتابة الروائية، تدلف علينا سطوة العنوان منذ دخول العتبة الأولى بغرائبية واخزة في رواية (حنتش بنتش)، لتحيلنا إلى المثل الشعبي “حنتش بنتش واللي بلحق بنتش” حيث تَشدُّ نصوصُ الرواية السبعة والستون الانتباه تباعًا ذهنَ القارئ إلى ما قد غُيِّب عنه واحدًا تلو الآخر إذ تفجأنا اللهجة القروية الفلسطينية التي كانت سائدة قبل فاجعة التشتيت الأولى للشعب الفلسطيني عام 1948م.
تبدأ الرواية نصوصها بمشهدية سريالية فجائعية عاكسة الصخب الهستيري الذي أحدثه الهجوم الصهيوني الغادر على قرية اجزم وما جرى من إجرام بحق الأرض والشعب، وتحديدا قطع أطراف الأولاد الصغار الذين هم رمز المستقبل:-
“يتفرعط أولاد الحارات …….
يتفرعط أهل القرى القرويون وأهل المدن المدنيون…..
العملاق يَدُبُّ ويفغص بيوت القرع والقثاء……
ويقطع أطراف الأولاد العابرين صوب كتّاب الشيخ عكاشة ……..”
كما تصور الغفلة الصادمة التي جعلت الناس في ذهول تحت حُمّى القصف اللا إنساني الذي أحرق ودمّر وشتت كل ما هو موجود على سطح الأرض في قرية اجزم وما حولها من القرى والمدن الفلسطينية وإذ تأتي كلمة (يتفرعط) في المحكي الشعبي لتدل على مدى الرعب الذي أدى إلى عشوائية السلوك بين أفراد الساكنين الآمنين في بيوتهم، وتبعثرهم هنا وهناك من غير وعي.
وممّا يسرده السارد فقد عكس حياة شرائح من المجتمع الفلسطيني بعد التبعثر في الشتات، مؤكدا على المعاناة الشديدة التي واجهته حيث اضطره الحال إلى أن يتعايش في بيئة غير بيئته، ومع واقع مرير غير الذي اعتاده.
لقد حرص الروائي على اهتمامه باللهجة الشعبية الفلسطينية باعتبارها جزءًا أصيلًا من تراث الشعب الفلسطيني، وعلامة مميزة لانتمائه إلى أرضه.
ومما يتضح من الرواية يدل على أن كاتبها قد أفاد كثيرًا من أحاديث من هم أكبر منه في توظيف هذه اللهجة القروية في سرديته، كما وتتضح فيها أيضا محاكاة الواقع بأسلوب ساخر لاذع ومشوق في آن معا.
وفي وصف استنفار الثوار في أثناء الثورات المتعاقبة للنضال ضد المحتل الإنجليزي والعدو الصهيوني وفي كيفية تنظيم صفوف المناضلين بالتنسيق فيما بينهم وتزويدهم بكافة ما يحتاجونه من مؤونة وسلاح وعتاد، فإن الرواية تؤكد حقيقة رفض الشعب عنجهية هذا الاستعمار الاستدمارية، والإعلان عن عدم استسلام أصحاب الأرض والقنوط على الرغم مما تعرضوا له من قهر وقمع، بل إنه الإصرار على مواجهة العدو وطرده واسترجاع الأرض المغتصبة بالقوة.
ولأن المرأة هي العنصر الأساس في أي مجتمع من المجتمعات، فقد اهتمت الرواية بتصوير المرأة الفلسطينية وأثرها الواضح في المجتمع الفلسطيني في الوطن وفي الشتات وإظهار دورها الحقيقي في تعاملها مع الواقع الجديد، ومدى الأثر الذي أسست له وتركته في بلورة وصقل الوعي بمفهومه النضالي لدى النشْء من جيل ما بعد النكبة.
الحاجة فرحة الوقورة جدة الساهي، وهي التي كان لها التأثير المباشر على الساهي وصقل وعيه. يراها القارئ حين تجعل من القليل كثيرًا، لكي تُعلِّم الأطفال المعنى السامي لمفهوم العمل، ومما يأتي على لسان الجدة الحجة فرحة في لحظة حميمية، وهي تطعم حفدتها من حبات الحمص التي تقوم بتحميصها على النار فتقول لهم:
” يمة يا حبيبي الحبة حقها مصاري والمصاري ما بيجيبها غير الفاعل، إن شاءالله بتصيروا زلام وبتشتغلوا بالفاعل وبتجيبوا مصاري وبتشتروا شوال أبو حز أحمر حمص”.
في هذه الحالة وعلى الرغم من صورة الفقر المدقع التي كان يعيشها المشرد الفلسطيني، إلا أن الحجة فرحة جعلت من هذا القليل كثيرًا، وصيَّرته فرحًا في نفوس حفدتها، وهي تشير إلى هَمِّ الأطفال الأول في تلك اللحظة وهو حاجتهم إلى التهام أكبر عدد من حبات الحمص، مؤكدة بالدعاء من أجل أن يصبحوا رجالا يُعتمد عليهم.
الصنورية تُمثل المرأة العنيدة الجريئة المعروفة بسلاطة لسانها وعفويتها وصدقها لدى سكان مخيم إربد التي لا تهاب أحدًا وتعطي كل ذي حق حقه وهي:-
” الوحيدة التي ركضت خلف النهر حتى أعياها الركض، وكادت أن تفقد مجراه وهي تنادي على أسماء الأولاد واحدًا واحدًا.
الوحيدة التي رأت الأيدي المبتورة وهي تتصافح في النهر والنهر لا يتوقف عن الجريان”.
إن الصنورية دليل على شجاعة المرأة الفلسطينية، وعلى إصرارها على نضالها بما تملكه من انتماء للوطن بإحساس نبيل تجاه الجيل الناشئ حامل لواء التحرير في المستقبل.
وللأطفال في مخيم إربد دور رئيس في الرواية، إذ إن الساهي هو الطفل الأكثر حضورا بين أقرانه في المخيم والساهي هو ذاته الأكثر ملاحظة لكل ما يرى وما يسمع من حيث وجوده في نصوص عدة من الرواية، يشاهد ويلتقط كل صغيرة وكبيرة، وقد استطاع بذكائه الفطن أن يعرف أسرارًا كثيرة مما يَخفى من سلوك وأفعال في داخل المجتمع الذي يعيش هو فيه. والساهي أيضا هو الصبي المشاغب من دون أن يلفت انتباه أحد، إنه:-
“حبيب الزعرنة والشيطنة، والبنانير، حبيب المقبرة والإذاعة……. ”
أما المكان فقد أحدث خلخلة في الاستقرار النفسي لأولئك الذين يهيمون في المنفى (اجزم، جبع، أربد، مخيم إربد، بيت راس، دمشق، بغداد وأماكن عديدة أخرى) ومن هيمنة المكان فإن الكاتب يبرز – رغم الشتات- نواحي الجمال فيما يظهر من أسلوب في وصف دمشق المدينة الجميلة على سبيل المثال في ليلها الساحر في الزمن الحاضر، وفي وصف حواريها وأسواقها المنتشية بسحرها وبهائها، وهي المدينة القديمة قِدَم التاريخ وما زالت ترتدي ثوب شموخها وفتنتها على امتدادها عبر العصور، مسترجعًا( السارد) سبب تسميتها، مستحضرًا أسماء أولئك الذين داخوا وذهلوا عبر الأزمنة بجمال دمشق وأبهتها منذ البدايات الأولى.
” داخ دمشق بن آدم بن سام بن نوح
داخ بنو أراسف الكنعاني
داخ اليونان
داخ سوراسب الضحاك ملك الفرس”
لعل النص الرابع والأربعين هو الأكثر سوداوية في وصف حالة الفقد والحزن معا حيث يقع الطفل توفيق الملقب بالخن في البئر، فيبكيه صديقه الطفل الساهي بكاءً مرًّا في مشهدية حزينة جدا:-
” هل زهقت روحك بسرعة أيها الخائن، لِمَ تذهب هكذا وتتركني وحيدًا، ها أنا ألومك على هذا الغياب وستلومك كل مراتعنا السناسل وشواهد القبور،……………”، وتطول المرثية الضاجة بالحزن إلى أن يصل الساهي في بكائيته إلى:-
“سيلومونك….. الكشافة الذين ماتوا غرقا في البحر الأحمر في إيلة العقبة، سيلومونك لأن الغرق في البحر أبحبح من الغرق في البئر المعتمة”
وتظل سريالية المشاهد تنبض منذ الحروف الأولى للرواية إلى نهايتها حتى يخلص السارد إلى الإشارة إلى الشاعر الفرنسي -لوتريامون، إزيدور دوكاس
الذي يقول في إحدى أناشيده النثرية مالدورور:
” أشعر بالحاجة إلى اللانهاية . . . لا أستطيع ، لا أستطيع أن أُشبعَ هذه الحاجة “.
وكأن الروائي محمود عيسى موسى أراد أن يوصل لنا أن كل ما قيل في الرواية ما هو إلا غيض من فيض مما يمكن أن يقال، أو إنه إحالة استرجاعية إلى العنوان ذاته الذي يوحي ب(حنتش بنتش واللي بلحق بنتش)
هكذا هو الحال في الرواية، هناك كثير مما يقال، لكن، هذا ما أمكنني أن أنتش من حنتش بنتش.

مقالات ذات صلة