الفيلم التونسي ” بيك  نعيش” يفوز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان مالمو للسينما العربية بالسويد

بيك نعيش".. دعوة إلى الصَّفْح وحرب على مافيا تجارة الأعضاء

 

 

زوجٌ مطعون                                  

يروي الفيلم في 90 دقيقة قصة زوجين: فارس (سامي بوعجيلة) ومريم (نجلاء بن عبد الله) يعيشان حياةً عاديةً مع ابنهما “عزيز” البالغ من العمر 11 سنة، حتى كان الموعد الذي سيقلب حياة الأسرة رأساً على عقب. يصطحب فارس ومريم ابنَهما في جولةٍ إلى الجنوب التونسيّ حيث يتعرّضون هناك لسطوٍ مسلَّحٍ، ويُنْقَل عزيز إلى المستشفى وتصبح حياته في خطرٍ وتتحوّل العطلة إلى كابوسٍ مرعبٍ لهذه العائلة.

 

تدور أحداث الفيلم في أواخر العام 2011 في مدينة تطاوين (جنوب) حيث تتعرَّض عائلةٌ تونسيةٌ ميسورةٌ خلال جولةٍ سياحيةٍ لهجومٍ مسلّح، فيُصاب الابن “عزيز” ما يؤدي لِتَلَفٍ في الكبد. هذا الحَدَث فجَّرَ سباقاً مع الزمن بحثاً عن متبرعٍ لإنقاذ الابن.

 

فكرة الفيلم كما أفاد مخرِجُهُ “مستوحاةٌ من مقطع فيديو صادم حول الاتّجار بالأعضاء في ليبيا”. استغرق إنجازُهُ خمس سنواتٍ، وهو إنتاجٌ تونسيٌّ فرنسيٌّ مشتَرَكٌ بميزانيّةٍ بَلَغَتْ مليون يورو. تستدعي حالة عزيز -واختيار الاسم لم يَكُنْ اعتباطيّاً- عملية زرْع أو تبرُّع بجزءٍ من كَبِد.

 

وفي الأثناء ومع تقدُّم الفحوص يكتشف الأب أن “عزيز” ليس ابنه البيولوجي، وهذا هو المنعَرَج الثاني في الشريط والقادِح الذي توقَّعْنا أن تُبْنَى عليه أحداثٌ مهمةٌ، لكنَّ المُخرِج لم يصعِّد، بل طرَحَ أسئلةً تَرَكَها معلَّقَةً بين أعيُن الأب الملتاع فارس، وهو يكتشف  خيانة زوجته، ونظراتها هي كيف ستواجه الأمرَّين.. الأول زوجٌ مطعونٌ يتألَّم وهو يرى الغدر ينطلق من فوّهة مسلَّحين يُصيب ابنَهُ، وغدْرُ رفيقة الدرب الموجوعة بإصابة ابنٍ، وزوجٍ أخْفَتْ عنه نَزَقَ نزوةٍ عابرةٍ أثْمَرَتْ سِرّاً ينفَضِحُ أمام التحاليل الطبية القاطعة.

 

 

تفجير للانفعالات

الفيلم ليس دراما أُسَريَّة، ولا فصلاً من فصول الشرف والخيانة، بقدر ما هو صرخةٌ ضد مافيا الاتّجار بالأعضاء كذلك، يُبْرِز ظاهرة الفساد التي تنخِرُ القطاعَ الطبّيَّ، مِن خلال مَن خان الأمانة وسرَّبَ مِلَفَّ المريض لمن يَمْتَهِنُ الاتّجار بالأعضاء البشرية بشناعةٍ، مثل استئصال بعض الأعضاء من أجسام الأطفال لبَيْعِها بمبالغ كبيرة، أو الأمن الذي يتواطأ مع السماسرة المتاجرين بالأعضاء حيث يتَسَتَّر على تنقُّلِهم.

 

سيرورة الشريط خَلَتْ من كل تعقيدٍ، جاءت دون مؤثِّراتٍ بصريَّةٍ أو صوتيّةٍ، لكن السيناريو يَعجُّ بالأحداث التي كانت قوادحَ عن الأزمة التي تعيشُها العائلة المنكوبة بشكلٍ ثُلاثيٍّ، ولم يكن هناك ما يدعو للبَذَخ على مستوى الصورة، فقد كان الاهتمام مُنْصَبّاً على تتبُّع العائلة، وهي تتعاطى بصبرٍ مذهلٍ مع الكارثة التي حلَّتْ بها.

 

اختار المخرج النَّفَاذ إلى أحاسيس شخصيَّتَي “فارس” و”مريم” وانفعالاتهما، وركَّزَ على  سعْيِهِما المحموم من أجل إنقاذ ابنهما مُفَجِّراً فيهما طاقات انفعالية، من خلال اللقطات القريبة التي تفضح مشاعرهما وتترجم أحاسيسهما وقدرتهما على استيعاب شحنات السيناريو، وترجمتها بإقناع. كما تخلَّل الشريط مُزَحٌ وجرعاتٌ من البذاءة اللفظية التي لم تكن مُسْقَطَةً، اختفت ساعةَ “تكهربت” الأجواء، وبلَغَ التوتر منتهاه عبر جرعاتٍ مدروسَةٍ، إذ لم يَعُدْ لها أيُّ مبررٍ.

 

 

غفران وترميم لمؤسسة العائلة

تتطوَّر العلاقة بين الزوجين في الفيلم بشكلٍ متوتِّرٍ، لتصبح علاقة انفصالٍ، وهذا التوتُّر بين “فارس” و”مريم” استمرَّ حتى نهاية الفيلم، وكان عامِلَ تطوّرٍ في بِنْيَة الأحداث بل عاملَ تشويقٍ، يُنْبئُ في كل لحظةٍ بانقلاب الوضع لكن ذلك لا يحدث.

 

وكأن المخرج يدعونا لتجاوُز شرور وآثام الإجرام بالمحبة والغفران، وأن العائلة مهما تسرَّبَت إليها الخيانة والفتور تبقى مؤسسةً يُمكن ترميمُها، وأن الخطأ بغض النظر عن مُقْتَرِفِهِ، يُمْكِنُ تجاوزُهُ بالتسامح، وأن التحدّيات الخارجية أكبر، ولا بد من مواجهتها، بالحب والعودة إلى جوهر الإنسان.

 

كان فارس –ومرةً أخرى لم يكن اختيارُ اسمِهِ اعتباطيّاً– فارساً وشهْماً، لم يفرِّط في ابنه، كان الأب الحنون والمسؤول عن عائلته، لم يتخلَّ عن زوجَتِه، ولم يتَّجِه إلى الثأر لشَرَفِهِ، “فارس” كان له من الشرف والقيَم الإنسانية السامية ما دفَعَهُ لشراء أعضاء لابنٍ ليْسَ من صُلْبِهِ، بل إنه التَجَأَ في حركةٍ نبيلةٍ، وداسَ خلالها على كبريائه، إلى الأبّ الشرعي “سامي” (محمد علي بن جمعة) للتبرُّع لابنِهِ “عزيز” كي يمنَحَهُ الحياة.

 

كما كانت الأم “مريم” على قدر المسؤولية، حيث حاولَتْ استرجاع زوجها وابنها، مُبْديَةً استعدادها لتسليم نفسها للعدالة من أجل إنقاذ ابنها. وينتهي عرض الفيلم بمشهدٍ يجْمَعُ الزوجين في المستشفى يتبادلان النظرات.. هل هي نظرات الأمل والغفران؟!

مقالات ذات صلة