حقوق المؤلف ورحيل رجُل الـ PDF… سليمان المعمري

المفارق في مناسبة اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف هذا العام، التي احتفل بها العالم يوم الخميس الثالث والعشرين من إبريل، أنه قبل حلول المناسبة بأسبوع فقط توفي رجلٌ له فضل كبير في نشر الكتاب وتسهيل وصوله لشريحة واسعة من القراء في جميع أنحاء العالم، والمثير للتعجّب أن هذا الرجل نفسه كان أيضا سببًا في هضم حقوق المؤلف، كما سنرى!.

إنه خبير الحاسب الآلي ورجل الأعمال الأمريكي تشارلز جيشك، الذي رحل في السادس عشر من إبريل الجاري عن عمر ناهز 81 عاما قضى نصفها تقريبا في شركة “أدوبي سيستمز” التي أسسها مع رفيق عمره خبير الحاسوب الآخر جون وورنوك، وهي كما هو معروف شركة متخصصة في إنتاج برامج الرسومات والنشر، وقادت في تسعينيات القرن المنصرم ثورة في عالم الاتصالات بتوفيرها اختراعات برامج مهمة كالـ”فوتوشوب”، والـ”أكروبات”، والــ”إليستريتور”، والــ”بريمير برو”، وطبعًا البرنامج الشهير PDF أحد أبرز صيغ الملفات التي طورتها “أدوبي” عام 1993 لتبادل المستندات، والذي جاء اسمه اختصارًا للحروف الثلاثة الأولى من العبارة الإنجليزية Portable Document Format التي تعني “تنسيق الملفات المنقولة”.
نستطيع الزعم أن عالم الكتب والقراءة بعد اختراع الــــPDF لم يعد هو نفسَه قبله، فقد أتاح هذا البرنامج تحويل ملايين الكتب الورقية إلى صيغ إلكترونية قابلة للإرسال من أقصى بقعة في شمال الكرة الأرضية إلى آخر بقعة في جنوبها بكبسة زر واحدة. وبعيدًا عن الدخول في المفاضلة الكليشيهية بين الكتاب الورقي ونظيره الإلكتروني نقول إن هذا البرنامج سهّل لكثيرٍ من الباحثين والطلاب والقراء الحصول على كتب مهمة ما كانوا ليصلوا إليها دونه في عالمٍ مترامي الأطراف كعالمنا.
وإذا كان الــــPDF جنة للقرّاء والباحثين، فقد كان جحيمًا على الناشرين والمؤلفين، فإن كنتَ قارئًا نهِمًا أو باحثًا مجتهدًا لكن مستواك المادي لا يسمح لك بشراء كل كتاب يجذبك فستسعى بالتأكيد إلى صيغته الإلكترونية، غير مكترث بما إذا كانت مبيعات النسخة الورقية ستتأثر بفعلتك هذه أم لا، وهذا ما انتبهت له صناعة النشر في أوروبا وأمريكا والدول المتقدمة بأن سنّت القوانين الصارمة التي تقنّن هذا النشر الإلكتروني وتربطه بحقوق المؤلف والناشر. وأظن أنها نجحت إلى حد كبير في التوفيق بين الــPDF والنشر الإلكتروني بشكل عام من جهة وبين حقوق التأليف والنشر من جهة أخرى.
أما في بلادنا العربية السعيدة التي مازالت حقوق النشر والتأليف فيها في “الصف الأول الابتدائي” فقد راجت قرصنة الكتب ونشرها إلكترونيًّا دون إذن مؤلفيها أو ناشريها، وسمعنا صرخات كثير من الناشرين خصوصا، لأن المؤلفين العرب هم الحلقة الأضعف في هذه القضية، فكثيرٌ منهم إما ينشر كتبه بلا عقود، أو بعقود مجحفة تقدم للمؤلف الفُتات من الأرباح المتوقعة لهذه الكتب، بل تسلبه أحيانا حتى مجرد حلم الفوز بجائزة، إذْ لا بد أن يتقاسمها مع الناشر، هذا مع افتراض التزام الناشرين بهذه العقود. لذلك وجدنا بعض المؤلفين ينشرون بأنفسهم نسخ الــ PDF لمؤلفاتهم، دون اكتراث بالناشرين الذين صرفوا أموالًا على هذه الكتب، ومن حقهم انتظار عائد مادي منها ولو يسير يغطي سعر التكلفة على الأقل.
هؤلاء الناشرون العرب إذن هم الأكثر تضررًا بالنشر غير القانوني لصيغ الــــPDF من كتبهم. فعلى سبيل المثال ما إن تُعلن القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية، وبينما يحلم الناشرون بمبيعات أكبر لهذه الروايات حد أنهم يصدرون على الفور طبعات جديدة منها ممهورة أغلفتها بعبارة “القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية”، إذا بهم يباغتون بأن معظم هذه الروايات انتشرت فجأة بصيغة الــPDF وقرئت على نطاق واسع حتى قبل أن تعلن القائمةُ القصيرة للجائزة!.
أستثني من هؤلاء الناشرين المتضررين مؤسسات النشر غير الربحية التي تعمل بأنفسها على نشر كتبها إلكترونيا، جنبا إلى جنب مع الكتاب الورقي، ومن أمثلة هذه المؤسسات مشروع “كلمة” للكتب المترجمة في أبوظبي الذي يوفر خدمة الكتب الإلكترونية، وسلسلة “عالم المعرفة” في الكويت التي أتاحت كل كتبها على الشبكة العنكبوتية، ومكتبة قطر الوطنية التي فتحت أرشيفها الضخم إلكترونيا للقراء بشكل مجاني.
كثير من عشاق القراءة سيشعرون إذن بالامتنان لهذه المؤسسات وغيرها من دور النشر التي تتيح لهم قراءة كتبها إلكترونيًّا مجانًا، وهو امتنانٌ مستحَقٌ بالتأكيد، غير أن الأكثر استحقاقًا لهذا الامتنان في الحقيقة هو الرجل الذي مات قبل أسبوع، تشارلز جيشك، وزميله في “أدوبي”. ولذا، سيتمنى هؤلاء القرّاء في كافة أنحاء المعمورة لروحه السلام والسكينة، وثلةٌ من المؤلفين، وربما، أقول “ربما”، قليلٌ من الناشرين.

سليمان المعمري
جريدة عمان. عدد الأحد 25 إبريل 2021م

مقالات ذات صلة