كشيّشة الحمام.. علاقة حميمية مع الطيور

ثمة من يبوح بحزنه لنفوق حمامة، لسبب أو لآخر، أو لأخرى سُرِقت منه وضلّت بعدها طريقها إليه. فيما ثالث يستعرض تدليله لها بزهو وجذل، لينحني رابع بحنوّ حين تهرع إليه مجموعات من الحمام فور اعتلائه سطح البيت.
علي أبو الفوز، واحد من كشّيشة الحمام في جبل النصر. بل إنه يعدّ نفسه قديما في الهواية، بحسبه؛ إذ بدأها منذ كان عمره ثمانية أعوام. يقول “أكشّ جزءا منه، فيما أربّي جزءا آخر؛ ليفرّخ، إلى جانب بيعي بعضه؛ كي أغطي تكلفة إطعامه”.
الحصيلة هي ما يزيد على مائة وخمسين حمامة في الأقفاص المكدّسة على سطح بيت علي، والتي تتفاوت أثمانها وفقا لنوعها؛ إذ البغدادي الأغلى ثمنا في سرب علي المكوّن من ذبّاني وكشميري ومراسلي وقرقاطي وريحاني وغيره.
لكشّ الحمام مواعيد محددة، وفقا له. يوضح “ثمة اتفاق ضمني بين كشّيشة الحمام على الساعة الثالثة عصرا خلال الشتاء، وعلى الساعة السابعة صيفا، لتحلّق الحمامات في السماء، قاصدة مناطق مجاورة كوسط البلد والجوفة مثلا، ولتعود عقب ساعة ونيّف لتناول عشائها والعودة لأقفاصها”، مردفا “تختلط الحمامات في الجوّ، غير أن كلا منها يعود لسطح صاحبه بعد ذلك، وإن حدث وعادت حمامة لسطح ليس لها فثمة اتفاق ضمني آخر بإرجاعها حال سؤال صاحبها عنها، أو قصقصة جناحيها والاحتفاظ بها إن أراد الكشّيش نقض الاتفاق”.
ثمة لغة خاصة بين علي وحماماته؛ إذ بمجرد أن يوعز لها بدخول أقفاصها، فإنها تدخل فورا، وإن حدث وأحجمت إحدى الحمامات عن دخول قفصها فإنه يعاقبها بالإمساك بها رغما عنها بشبكة طويلة، لترضخ لأوامره في المرات المقبلة، كذلك هو يربّيها على العودة له بعد التحليق في السماء، ويعطي بعضها ثقة لتعود أثناء الصباح، بدلا من البيات في أقفاصه.
عشاء الحمام الخاص بـ”الكشّ” هو ذرة صفراء، غير أن المصنّف للزقّ؛ أي للتفريخ، فإن عشاءه ذرة بيضاء وكرسنّة وبيغا؛ ذلك أن الأخيرة تحتاج لما يُقوّيها، كما يقول علي، مضيفا أن وجبة الحمام هي العشاء فقط؛ كي لا يسمن إلى حد يعيق طيرانه بحريّة.
وفي وقت يتحسّر فيه على سرقة حمام منه بقيمة ستة آلاف دينار ذات ليلة “وقفة عيد”، فإن سمحان فايز يستذكر مشاجرة كبيرة نشبت بينه وبين شقيقه وأبناء عمومته من جهة ومجموعة من شبّان الحارة التي يسكن فيها من جهة أخرى، بسبب كشّ الحمام.
يقول “في العادة، يتفق كشّيشة الحمام على أن يكونوا أصدقاء في الحارة، وإن كانوا أعداء على الأسطح؛ بسبب الحمام. وذات يوم كنت وشقيقي قد اتفقنا مع أحد الكشّيشة على أنّ من يمسك منا بطير الآخر فإنه لا يعتقه ما لم يأتِ صاحبه بكيس علف”.
يمضي سمحان في سرد القصة، التي أخلف فيها الكشّيش من الطرف الآخر وعده، فجاء، حين أمسك سمحان وشقيقه بطيره، بنيّة الشجار، لتتطور المشكلة إلى ضرب بآلات حادة ومن ثم حبس شقيقه مدة أربعة عشر يوما.
في أعقاب تلك المشكلة، قرّر سمحان أن يُنهي هذه الهواية للأبد، فقام ببيع الحمام كلّه، غير أنه بدأ بالعودة لسطحه بعد أسابيع، ليداهمه الحنين للهواية مجددا، وليعود لشراء الحمام وتربيته وكشّه من جديد، كما يقول.
يقرّ كل من علي وسمحان بالصورة السلبية التي يرسمها المجتمع لكشّيش الحمام؛ إذ يقولان إن طقوس الكشّ من تصفير ورمي للحصى؛ كي يطير الحمام عن أسطح الجيران، إلى جانب مخلّفات الحمام الكثيرة، من شأنها التسبّب بانزعاج وامتعاض الأهل كما الجيران.
كان شقيق سمحان قد تخوّف ذات مرة من مقولة رائجة تتحدث عن منع كشّيش الحمام من الإدلاء بشهادته في المحكمة، كما يقول، ما جعله ينوّه بذلك للقاضي الذي طلب شهادته، فإذ بالأخير يجيز له ذلك، نافيا صحة تلك المقولة.
لشاهر الجوهري، الذي يعمل مديرا في وكالة سيارات، حكاية أخرى مع الحمام؛ إذ لا يكشّه بعد أن مضى في الأربعينات من عمره، بل هو يربّيه على سطح منزله؛ لغاية التفريخ.
يقول “لديّ حوالي خمسين زوج حمام، والتجارة فيها مربحة؛ إذ يجني المتاجر ما يزيد على ألفيّ دينار في العام الواحد”.
وعن آلية التربية، يقول كل من شاكر وسمحان وعلي إنهم يتركون الأزواج الثمينة لتتزاوج في أقفاصها، ليأخذوا بيضها عقب ذلك ويعطوه لتلك الأقل ثمنا لاحتضانه، وبالتالي لتبيض تلك الثمينة بيضا إضافيا، وهكذا دواليك.
ويضيف الجوهري إنه لا يتخوّف من النظرة السلبية حياله؛ إذ هي فقط حيال من يكشّون الحمام، أما من يربيه فلا يزعج أحدا، بحسبه.

مقالات ذات صلة