أنطولوجيا الكمامة”.. شيءٌ عن “الزرقاء” والثقافة وكورونا!

بقلم نور

 

كيف تحوَّلَت هذه القطعة من شيءٍ نادرٌ رؤيَتُهُ، إلا داخل المستشفيات أو في المسلسلات الطبّيّة، وأحياناً على وجوه بعض الآسيويين الذين يزورون مصر، إلى قطعةٍ أساسيةٍ في حقيبة كل فتاة، وداخل جيب كل رجل، وعلى وجوه الجميع؟!

 

 

فكَّرْتُ في بداية معرفتي بالكِمامة الطبّيَّة، والأهم كيف تحوّلَت رؤيتها وارتداؤها إلى أمرٍ عاديٍّ، كيف بِتنا نراها في كل مكان، حتى على وجوه “المانيكانات” الخشبية في فاترينات العرض، ملقاةً على الأرصفة وبين السيارات، ندوس عليها بأقدامنا مثل أيّ كيس شيبس أو حلوى فارغ، الكِمامة المُتَّسِخَة الممزقة الملقاة في الشوارع، لا تُثير الاستغراب، لا تجعلنا نتوقف لحظةً وندرك حقيقة ما نعيشُهُ فعلاً.

 

منذ عدة أيام فكَّرْتُ في الكتابة عن أننا وبعد أن ينتهي كل شيء، سنفتح أعيننا فجأةً، لِنْدُرك حجم الهول الذي مررنا به، نحن داخل النفق لا نَنْتَبِهُ إلى ضِيقِهِ ورائحَتِه ورُعْبِه، لأننا نركِّز فقط على الضوء في آخره، نتَتَبَّعُهُ ونزحف نحوه دون أن نترك الفرصة للعقل بأن يعْمَلَ ويُلاحِظ ويفهم، إلا بعد أن نخرج منه، ونعود بنَظَرِنا إلى الخلف، وندرك ما كنّا فيه.

 

هذا ما يحدث لنا الآن، تعامُلُنا مع الكِمامة يُثْبِتُ هذا، ثمّة تبلُّدٌ ما يُسيطر على عقولنا، وكأنها محاطةٌ بطبقة ضبابٍ كثيفةٍ، ربما هذا ما يَجْعلُنا قادرين على الاستمرار في الحياة، ويجعلنا قادرين على الخروج من هذه الفترة الصعبة.. أحياناً انعدام الإحساس بالخطر هو ما يَلْزَمُ للنجاة منه.

 

 

كيف بَدَأَتْ الكِمامة؟

يُقال إن بداية ظهور الكِمامة كانت في فترة مرض الطاعون في باريس العام 1619، اختَرَعَ “شارل دي لورم”، طبيب الملك لويس الثالث عشر، لِباساً يُمَكِّنُهُ من فحْصِ المريض دون لَمْسِهِ، عبارة عن بذلةٍ واقيةٍ بِقناعٍ يُشْبِهُ وجهَ طائر، بمنقارٍ طويلٍ وعصا. أُطْلِقَ عليه بعد ذلك “الطبيب منقار”.

 

بعدها في العام 1897؛ اخترع الطبيب “أوتو هويبنر” أول قناعٍ طبّيٍّ مكوَّنٍ من طبقتين من الشاش، يُوضَع على مسافةٍ كافيةٍ وآمنةٍ من الأنف، ويُسْتَخْدَم فقط خلال إجراء العمليات الجراحية. وتبيَّنَ من خلال التجربة ازدياد فعاليّة القناع بزيادة عدد طبقات الشاش، وبتقريبِهِ أكثر للأنف، وقد خَضَعَ بعدها لعدة تحسيناتٍ في الشكل والتصميم عبر التاريخ حتّى عام 1960.

 

 

في وقت الإنفلونزا الإسبانية الخطيرة التي انتشرت العام 1917، كان الوضع يُشْبِهُ ما نحن عليه اليوم، بدأت التحذيرات من كشف الوجه واحتمالية انتقال العدوى عبر الفتحات التنفُّسيَّة، مما دفع الناس إلى تغطية الوجوه بكل شيءٍ متاحٍ، أقنعة وكمامات قماشية وأوشحة وحتى أقنعة الغاز الضخمة، يمكننا أن نرى صوراً أرشيفيةً مرسومةً للناس في الشوارع وهم يُمارسون حياتهم مُرتَدِينَ هذه الكمامات، كما هو الحال اليوم تماماً، فقط مع اختلاف شكل الكِمامة وزيادة دقّة حمايتها.

الكِمامة بطلٌ في الأفلام والمسلسلات

لم تكن الكِمامة شيئاً مألوفاً بالنسبة للبشر العاديين إلا في الأفلام والمسلسلات، حتى أنها لَعِبَتْ دوراً محوريّاً في العديد من الأحداث، ففي فيلم “على ورق سوليفان” المقتَبَس من قصةٍ قصيرةٍ للأديب المصري الكبير يوسف إدريس، تكتشف الزوجة الكارهة لزوجها الطبيب ضعيفِ الشخصية صاحبِ الأنامل الرفيعةِ والنظرةِ الناعسةِ، والمفتقرِ للرجولة بوجهة نظَرِها، سطوَتَهُ داخل غرفة العمليات عندما تقودُها الصدفةُ إليها.

ورغم أن ملامِحَهُ مخفيَّةٌ خلف كِمامَتِهِ الطبيّة، إلا أنَّ عينيه تَظْهَران بوضوحٍ وكأن الكِمامة تُؤطِّرهما، صارمتين نافذتين وحاسمتين، تُحَوِّلُ الكِمامة صوتَهُ المتراخي إلى صوتٍ عميقٍ وقويٍّ، يأمُرُ فيُطاع، وتتحوَّل أنامِلُهُ الرفيعة إلى آلاتٍ دقيقةٍ تُجري العملية بسرعةٍ ومهارةٍ، تُغَيّر الزوجة نظرتَها إلى زوجها بسبب الكِمامة، وتقع من جديدٍ في حُبِّهِ.

في فيلم “موعد مع السعادة”، تُواجِهُ البطلةُ “إحسان” الطبيبَ “ممدوح” الذي غرَّر بها في الماضي وتركها تحمل طفلَتَهُ في بطْنِها دونَ زواجٍ، ودون حتى أن يتذكَّرَها. تطرُدُها الأمّ الغنيَّة المتسلِّطَة دون أن تُخْبِرَ ابنها بما حدث، فتهرب وتعمل كممرضةٍ باسمٍ مستعار، وتبدأ حياةً جديدةً مع ابنتها.

 

 

تلتقي إحسان بحبيبها ووالد طفلتها لأول مرةٍ بعد سنين في غرفة العمليات، تختفي ملامحها خلف الكِمامة وتختفي ملامِحُهُ أيضاً، لكن العيون تتلاقى في تساؤلاتٍ واتِّهاماتٍ ومحاوَلاتٍ للتذكُّر ومحاولاتٍ للتَّخَفّي، هذا المشهد لم يكن سيحمل جمالياتَهُ دون وجود الكِمامات على وَجْهَيْ البَطَلَيْن.

 

 

في المسلسلات الطبيّة، يتم اختيار الممثلين بمواصفات جماليّة وشكليّة، الأهم هو تمتُّعُهم بعيون عميقة ومُعَبِّرَة، منذ مسلسل غرفة الطواريء (E.R)، مروراً بمسلسلات (House)، و(Grey`s Anatomy)، و(Private Practice)، وغيرها.. نعم، يتم اختيار الأبطال بعيونٍ جذَّابةٍ كحال: جورج كلوني، وإلين بومبوي، وهيو لوري، فمعظم المشاهد تدور في غرف العمليات والطواريء وأروقة المستشفيات، والتعبير بالعينين عما يُفَكِّرُ به البطل أو ما يُريد قولَهُ أمرٌ ضروريٌّ للدراما.

 

 

 

الكِمامة في الثورة المصرية

لعلَّ أول انتقال للكامامات الطبية إلى أرض الشارع كان في أحداث الثورة المصرية في يناير 2011، فبسبب قنابل الغاز، عانَى المتظاهرون من ضِيْقِ التنفُّس وعدم القدرة على الرؤية، وهنا كانت الكِمامات إحدى الوسائل التي توصَّلوا إليها للحماية، إلى جانب قِطَعِ القُماش المبلَّلَةِ بالخَلّ بالليمون.

كان المتطوِّعون يُوَزِّعون الكِمامات على المتظاهرين، وبات شكْلُ المتظاهرين وهم يرتدون الكِمامة أمراً عاديّاً في الصور ومقاطع الفيديو، إلى جانب طرقٍ أخرى توصَّلُوا إليها للحماية مثل ارتداء الأوعية المعدنية فوق الرؤوس، وحتى أكياس القمامة وأقنعة الأطفال على الوجوه.

بداية “كورونا”

في نهاية شهر شباط (فبراير) من العام 2020، وداخل محطات مترو الأنفاق، كانت السمّاعات الداخلية تُذيع رسالةً مكررةً بصوتٍ أنثويٍّ محايدٍ بلا مشاعر، رسالةً تُحَذِّرُ الناس من فيروس “كورونا” المستجد، وتُطالِبُهم ببدء ارتداء الكِمامات، وغَسْل الأيْدِي والتباعُد الاجتماعي.. لم أكن أملِكُ كِمامةً وقتَها، ولم أعرف حتى من أين أحصُلُ على واحدةٍ.. كانت الرسالة تبدو وكأنها مؤثِّراتٌ صوتيةٌ لفيلم رعب. ظلام الأنفاق وحشود الناس على الرصيف، و”اللمبات” التي تَئِزُّ أو يتقطَّعُ ضوؤها، كلها رَمَتْ الخوفَ في قلبي من اليوم الأول. خرجتُ من “المترو” أبحث عن أي صيدليّةٍ، خبَّأْتُ وجهي خلف كِمامة زرقاء، ولم أكشِفْهُ مجدداً خارج المنزل إلى اليوم.

 

على منصّات عروض الأزياء

مع بداية الموجة الأولى لفيروس كورونا، عانى العالم من ندرَةِ الكِمامات ونفادِها بسرعةٍ فائقةٍ من الصيدليّات والمستشفيات، حتى أن العديد من مصانع الملابس، و”أتيليهات” مصمِّمي الأزياء، تحوَّلَتْ لخطوط إنتاج الكِمامات ذات الطبقات المتعددة وتوزيعها على الأطْقُم الطبيّة والمحتاجين، لكنها ومثل أيّ شيءٍ مطلوبٍ، عادت في غضون شهور قليلة لتغمُر الأسواق، بحيث تُباع الكِمامة اليوم في الـ”سوبر ماركت” ومحلات البقالة والأكشاك وفي نوافذ تذاكر “المترو”، وحتى على الأرصفة.

وكان أن تحوَّلَتْ إلى صيحة أزياء، فرأيناها في أسابيع الموضة بتصاميم مبتَكَرَة وأنيقة وأحياناً مضحِكَة، لتُكْمِلَ الإطلالات لعاشقات الأناقة.. كِمامات ملوَّنَة ومرصَّعَة ومطرَّزَة ومطبوعة، ربما حتى كِمامات لامعة تُناسِب السَّهرات مثل التي ارتدتها النجمات على السجادة الحمراء للمهرجانات.

 

باتت الكِمامة، إذاً، قطعة إكسسوار كما الحقيبة والنظّارات الشمسيّة والأقراط، كل يومٍ تظهَر صيْحاتٌ جديدةٌ تدخل الكِمامة فيها بعاديّة دخول الأحذية والسُّتْرات والبلوزات.. لون طلاء الأظافر مطابقٌ للكِمامة، أنواع مكياج تُناسب أسفل الكِمامة، ظلال العيون الملائم للون الكِمامة.. يبدو أن الزمنَ جديرٌ بما يكفي لتحويلِ قطعةٍ مرعبةٍ إلى شيءٍ عاديٍّ بل وجميل.

 

ما بعد الكورونا؟

أحياناً، وأنا أسير في الشارع، أختنق تحت وطأة الكِمامة والحرّ والعرق والإجهاد، أتساءل عمّا سيحدث بعد انتهاء هذا الوقت العصيب؟ بعد انتصارنا على الكورونا ودحْرِها وتراجُعِها لتعود مجرَّد فيروس عادي لا يُثير الرعب، كيف سنتمكن من استعادة الثقة في السير بلا كِمامة في الشوارع؟ كيف سنكشف وجوهنا مرةً أخرى للحياة؟ كيف سنتمكن من التعبير بالابتسامة بعد أن تجمَّدَت؟ هل ستعود الكِمامة قطعةً نادرةً لا تَظْهَر سوى في المستشفيات أو المسلسلات والأفلام؟ هل سنشعر بالأمان في السَّيْر في الزحام أو التواجُد في التجمُّعات دونها؟

 

شخصياً، أشعر بصعوبة التخلي عن عادةٍ صارت روتينيّةً إلى هذا الحَدّ، تمتَدُّ يدي دون إرادةٍ إلى علبة الكِمامات بجوار الباب لارتدائها قبل مغادرة المنزل، تعوَّدْتُ حتى على الغناء والكلام مع نفسي أثناء السَّيْر وحيدةً محتميَةً بكِمامتي.. ربما عندما أتخلّى عنها، أفتقدها قليلاً، لكنني حتماً لن أفتقد كل الأحداث التي صاحَبَتْ ظهورَها وانتشارَها.

 

مقالات ذات صلة