العين عزايزه : إسرائيل دولة الملاذ.. هل تبخر المفهوم؟

شكل الوجود اليهودي في كثير من دول العالم تجاذب واختلاف سواء في التفاعل والاندماج داخل مجتمعاته أو الاقصاء والانكفاء داخل مجتمعات آخرى مما اوجد ظاهرتين لواقع الوجود اليهودي:

الحالة الأولى:

ظاهرة التفاعل والاندماج حيث تفاعل اليهود وتم التعامل معهم أيضاً من مجتمعاتهم كديانة مثل باقي الديانات وعاش اليهود في هذه المجتمعات على هذه الخلفية بالرغم من مفهوم (الحارة أو الحي) اختيارياً في بعض الدول وكانت هذه ظاهرة مبررة ومقبولة أسوة في واقع كثير من الأقليات سواء الدينية أو العرقية في هذه المجتمعات دون وجود أي مشاعر تمييزيه أو استثنائية وكان هذا واقع اليهود في الشرق وتم اطلاق اسم “السفارديم” على هذه الفئة لاحقاً.

الحالة الثانية:

ظاهرة العزلة والانغلاق ذاتياً أو بالاكراه لليهود في كثير من دول العالم وخاصة الأوروبية منها وممارسة التمييز الديني، خاصة منذ القرن الخامس عشر وصولاً إلى منتصف القرن العشرين وما اجتاح أوروبا من حروب داخلية وعلى خلفيات دينية في فترات زمنية طويلة وكان أقساها تفشي ظاهرة الفاشية والنازية في أوروبا، وكان اليهود جزءاً من الصراع الدائر وتم في العديد من الدول فرض مفهوم (الحارة المعزولة) إجبارياً في كثير من دول أوروبا وأطلق على اليهود في هذه الدول تسمية “الاشكناز”.

لم يكن هناك تنسيق أو تواصل يذكر بين الحالتين وتعاملت كل حالة مع واقعها بشكل منفصل لحدٍ ما، لذلك لم نلاحظ وجود أي تعابير قومية موحدة للديانة اليهودية وتحويل مفهومها من ديانة إلى قومية قبل نهايات القرن التاسع عشر.

ابتدأت الحالة الثانية وتعبيراتها الأوروبية ومن خلال نفوذ قياداتها داخل المجتمعات الأوروبية في بعض الدول محاولة السعي لتعريف وتأطير الوجود اليهودي أو تحويل اليهودية إلى مفهوم قومي عبر إيجاد الحركة الصهيونية مستغلة معاناة اليهود داخل المجتمعات الأوروبية والشعور بالكراهية السائد عبر الطرح النازي والفاشي في العديد من هذه المجتمعات، مما أوجد تلاقياً في الأهداف من خلال الرغبة اليهودية في الخلاص من حالة الانعزال والانغلاق والشعور العام بالكراهية داخل مجتمعاتهم ورغبة العديد في المجتمعات الأوروبية في الخلاص من الوجود اليهودي وتأثيراته في هذه الدول، وأدى هذا التلاقي لتعزيز مفهوم الحركة الصهيونية تحويل الديانة إلى قومية وإيجاد وطن لهذا التوجه خارج أوروبا والذي لاقى ترحيباً أوروبياً عبّر عنه إصدار وعد بلفور عام 1917 متحدثاً عن (وطن قومي وليس عن دولة)، ورغم هذا الطرح القومي لليهودية الا أن التفاعل معه بقي محدوداً جداً لدى يهود الشرق بل مرفوضاً عند غالبيتهم وذلك لظروف الحياة الجيدة لليهود في مجتمعاتهم الشرقية ولم تستطع الروايات والأساطير التاريخية للحركة الصهيونية شد عصب “السفارديم” اتجاهها رغم قربهم الجغرافي من فلسطين مقارنة بمقدار ما حصل مع اليهود الغربين “الاشكناز” رغم بعدهم الجغرافي عن فلسطين.

شكلت الحرب العالمية الثانية وما دار خلالها ونتائجها الأرض الخصبة للاسراع في تنفيذ مخطط الحركة الصهيونية كتعبير لمفهوم الملاذ الآمن لليهود في العالم وساعدت أوروبا وخاصة بريطانيا في الاسراع في تحقيق ذلك في مدة لم تزد عن ثلاث سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واستطاعت الحركة الصهيونية تطوير مشروعها في وطن قومي إلى دولة الملاذ الآمن والممثل لليهود في العالم واستطاعت الظاهرة اليهودية والاشكنازية الأوروبية وما امتلكت من امكانيات فرض مفهومها القومي على الظاهرة اليهودية “السفارديم”، وابتدأت موجات هجرة وتهجير لليهود الشرقيين من دولهم طواعية أو ترهيباً لليهود في مجتمعاتهم الشرقية.

رغم الهجرة الكبيرة لليهود من الدول العربية والشرق أوسطية في خمسينيات القرن الماضي إلا أن اليهود الغربيين “الاشكناز” بقوا هم القوة المسيطرة على مسار الدولة ودعمهم في ذلك قيادتهم للكيبوتسات والموشافيم والإمكانيات التكنولوجية والعلمية التي حصلوا عليها من أوروبا واستطاعت تعزيز قيادتها كبرى المؤسسات المهمة كوزارة الدفاع والخارجية ورئاسة الوزراء ورئاسة الدولة والأركان وقيادة المحكمة العليا وبسيطرة اشكنازية شبه كاملة مع حالات ديكورية للسفارديم في بعض المواقع ولفترات قصيرة.

أتت حرب 1967 لتعزيز هذا التفوق ليس على مستوى الداخل الاسرائيلي فقط بل تقديمه كنموذج قوي للغرب في المنطقة مما عزز في طرح الحركة الصهيونية أكثر لدى اليهود في العالم، واستطاعت تأمين اللاصق الكافي لتركيب أحجار الليغو.

أتت حرب 1973 لتعمل ولو جزئياً على البدء في تغير هذا الفهم وكذلك صعود التمثيل الفلسطيني للواجهة إلى بدء قيادة مرحلة التحول ولو بشكل متدرج وتجلى ذلك بهزيمة حزب العمل وحلفائه بانتخابات الكنيست 1977 واستلام مناحيم بيجن (زعيم حيروت) للحكم ورغم جذوره الصهيونية إلا أن الكثيرين من أنصاره ومؤيديه كانوا من المحسوبين على اليهود الشرقيين “السفارديم”.

ابتدأ المستوى العلمي والعددي لهذه المجموعات الشرقية بالتغلغل داخل مراكز القوى في اسرائيل ودعم ذلك الهجرات المتكررة من أوروبا الشرقية ووجود نسبة مهمة من هؤلاء من غير اليهود، مما أدى إلى ايجاد تغيرات ديمغرافية على الخارطة السكانية في اسرائيل وانعكس ذلك على مراكز القوى في صنع القرار في الحكومة والكنيست.

تم التوسع في الاستيطان وحصول المستوطنين على امتيازات كبيرة على حساب الطبقات الاجتماعية ورغم التوصل إلى السلام مع مصر وكذلك اتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية ومعاهدة السلام مع الأردن إلا أن عدم الوصول إلى حلول دائمة وحصول الانتفاضات الفلسطينية الأولى والثانية والحروب المحدودة مع غزة ولبنان أدى إلى استمرار وتزايد الشعور بالخوف والقلق على مستقبل ووضع اليهود في اسرائيل.

التحديات الكبرى التي تواجه إسرائيل:

أولاً: تغير البنى الديمغرافية في اسرائيل وتراجع القوى العلمانية الصهيونية الاشكنازية لقيادة المجتمع الاسرائيلي والتي أسس لوجودها انقسام المجتمع إلى أربع مكونات متناحرة:

1) الصهيونية العلمانية

2) لصهيونية الدينية

3) اليهودية الارثودكسية (الغير صهيونية)

4) العرب وازدياد حدة الصراعات داخل هذه المكونات خاصة خلال السنوات الأخيرة.

ثانياً: تعزيز نفوذ السفارديم على حساب الاشكناز خاصة في المواقع المتقدمة والمهمة والتي كانت محصورة سابقاً في الاشكناز. وأدى عدم تحقيق الاندماج الكافي بين القوتين والمحافظة على العادات والتقاليد الموروثة سابقاً رغم الزواج المختلط.

ثالثاً: التمركز السكاني اليهودي في مساحة محدودة جداً تشبه وضع قطاع غزة إلى حدٍ ما، حيث يتواجد حوالي 65% من اليهود (4.250.000 مليون) في مساحة 1500 كيلومتر مربع (غوش دان) من حيفا إلى اسدود، وكذلك حوالي 15% من اليهود (1 مليون) في منطقة القدس ومستوطناتها بمساحة لا تتجاوز 500 كيلومتر مربع مما يعني أن 80% من الوجود اليهودي في فلسطين (أكثر من 5 مليون) يتواجدون في مساحة إجمالية حوالي 2000 كيلومتر مربع وهي تشكل أقل من نصف مساحة الضفة الغربية مع ما يشكل ذلك من أخطار محتملة من أي مواجهات قادمة سواءاً من الداخل أو الخارج.

رابعاً: الانقسامات الكبيرة والتراجع المهم في الأحزاب الصهيونية العلمانية والتي قادت المشروع الصهيوني من بدايته (حزب العمل نموذجاً) وتلاشت لصالح انقسامات حادة انعكست بعدم القدرة على استمرارية استقرار سياسي للحكومات حيث تم إجراء أربعة انتخابات في أقل من عامين.

خامساً: ضعف الهجرة من الخارج لتصل إلى حوالي 20 ألف سنوياً وأغلبها للحصول على جواز سفر اسرائيلي وامتيازاته في أوروبا وأمريكا.

سادساً: تزايد الهجرة العكسية من اسرائيل وهذه من أهم النقاط التي يعاني منها المجتمع الاسرائيلي حالياً حيث يزيد عدد حاملي الجنسية الاسرائيلية والمستقرين خارجها إلى أكثر من مليون مهاجر أغلبهم ينتمون للصهيونية العلمانية أو الصهيونية الدينية مما أضعف وجود الطبقة الوسطى وأوجد انزياحات كبرى لصالح التطرف سواءاً على الصعيد السياسي والاجتماعي و الاقتصادي.

سابعاً: تزايد فرص التهديد الخارجي من حول اسرائيل شمالاً وجنوباً خاصةً القلق على البنى التحتية والتجمعات السكانية الكبيرة وعدم القدرة على تحمل الخسائر الكبيرة في حال حصولها.

ثامناً: سعي الاسرائيلي إلى الحصول على جواز سفر أخر وهذه الظاهرة أخذة بالاتساع وتم التنبيه لها من قادة كبار في المجتمع الاسرائيلي وصدور العديد من التحليلات من قادة صهيونين كبار سياسين وأمنين ومؤرخين عن تداعيات الازمات الموجودة والمرتقبة لهذا المجتمع رغم القوة العسكرية والاقتصادية والشعور بالثقة لدى قادة اسرائيل علماً أن قدرة تحمل هذا المجتمع لم تختبر منذ فترة طويلة.

تاسعاً: تزايد نفوذ عصابات الجريمة المنظمة والمافيات وانتشار ظاهرة الفساد وخاصة لدى النخب الحاكمة وذهاب العديد من هؤلاء إلى السجن في الفترة الماضية.

عاشراً: صمود الفلسطينين على أرضهم وعدم حصول موجات هجرة جديدة وصعود الهوية الفلسطينية خاصة لدى الفلسطينين في أراضي 1948 رغم محاولات اسرائيل تاريخياً لالغائها ووصول إجمالي عدد الفلسطينين في أراضي فلسطين التاريخية إلى ما يساوي عدد اليهود وربما يزيد على عدد اليهود وذلك باحتساب عدد اليهود حالياً في أراضي فلسطين التاريخية بعد هجرة حوالي مليون منهم إلى الخارج رغم أنهم ما زالوا على قيود المواطنين في اسرائيل.

حادي عشر: استقرار الجاليات اليهودية في العالم وتعزيز وضعها السياسي والمالي خاصة في أوروبا وأمريكا وزوال مفاهيم الاقصاء والانعزال لهذه الجاليات وتصدرها لمواقع قيادية متقدمة مما حد من هجرة هذه الجاليات إلى اسرائيل وكذلك الابتعاد جزئياً وتدريجياً عن التماشي مع التطلعات الاسرائيلية وخاصة المتطرفة منها في الكثير من الأحيان وتصدر جزء من قيادات هذه الجاليات للطروحات التقدمية والديموقراطية في دولها خاصة أوروبا وأمريكا وبروز ذلك من خلال تصويتها في الانتخابات في هذه الدول أبرزها تصويت حوالي 75% من اليهود في أمريكا لصالح بايدن والمهم أنه ضد ترامب الذي قدم لاسرائيل تنازلات لم تحلم بها من فترة طويلة، مما بدأ يولد شعوراً لدى هؤلاء أن التطرف الاسرائيلي أصبح حملاً ثقيلاً عليهم.

كل هذا يقودنا إلى سؤال كبير، هل ما تطلع إليه اليهود في أوروبا في القرن العشرين إلى إنشاء دولة الملاذ (اسرائيل) تحقق كما هو مطلوب وهل لا زالت حاجة يهودية وتتلاقى مع تطلعات الغرب المستقبلية في المنطقة، وهل شعور الاسرائيلي اليوم أنه آمن ومستقر لمستقبل بعيد أم أنه يفكر جدياً بملاذ آمن خارج اسرائيل.

والاجابة على هذا السؤال جاءت بالخوف والشك من قادة كبار سياسيين وعسكريين إسرائيليين

(ابراهام بورغ – عاموس جلعاد – ابراهيم ليفي – ديسكن – استر حيوت – اسحق بريك) .

وهذه الاجابة لن تكون فورية ولكنها محط تفكير عند الكثيرين في المجتمع الاسرائيلي الذي أصبح

جواز السفر الثاني له إضافة للجواز الاسرائيلي مطلباً كبيراً فهل لاصق أحجار الليغو بدأ بالضعف والتلاشي حسب قوانين الفيزياء وشعور الحاجة للملاذ قد تبخرت وربما تحولت لشعور بالرغبة بالحصول على ملاذ بالخارج للإسرائيلي.

أسئلة برسم الاجابة ونحتاج لزمن للإجابة عليها ولكن اعتقادي قد ابتدأت.

ـــ راي اليوم

مقالات ذات صلة