كلّ هذه الفوضى الروسية

حيان جابر

حرير- جذبت الفوضى الروسية أخيرا اهتمام العالم أجمع، نظرا إلى الموقف من روسيا البوتينية، بين الطوق للخلاص من سيطرة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من جهة، والخوف من مرحلة ما بعد بوتين من جهةٍ أخرى، وهو ما انعكس على قراءة المشهد الروسي وتداعياته على الساحة العالمية إجمالا، إذ انعكس الموقف من نظام بوتين على قراءة الفوضى الروسية وتداعياتها المستقبلية، الأمر الذي يدفعنا إلى تحديد ملاحظات أولية مستخلصة من ساعات الفوضى القليلة نسبيا.

بداية؛ تعبّر الفوضى الروسية عن مدى عمق الخلاف أو الصراع بين المؤسسة العسكرية، ومن خلفها المؤسسة الرئاسية ممثلة بشخص الرئيس بوتين، ومجموعة “فاغنر”؛ برئاسة يفغيني بريغوجين، وهو ما يدل على مؤشراتٍ عديدةٍ، منها مستقبل المجموعة، التي لعبت؛ وما زالت، دورًا محوريًا في تحقيق مصالح روسيا الخارجية، ويحقق لـ “فاغنر”؛ أو مؤسسها يفغيني، مكاسب مالية مهولة، وهو ما تمظهر بوضوح في القارة الأفريقية وليبيا، ونسبيا في سورية. بناء عليه، قد تعاني المجموعة من تداعيات تراجع الدعم الحكومي غير المباشر، من قبيل الاستفادة من السلاح الروسي، ومن الخبرات العسكرية الروسية، والأهم الاستفادة من المعلومات الاستخباراتية الروسية، ومن علاقات روسيا الخارجية، التي شكلت البوابة الرئيسية لنشاط “فاغنر” وفاعليتها في السنوات الماضية.

في مقابل ذلك، قد تفقد الدولة واحدة من أدواتها الخارجية الفاعلة، بل قد تفقدها لصالح أطرافٍ دوليةٍ أخرى؛ رغم استبعاد الكاتب ذلك في المدى القريب، الأمر الذي يضع روسيا البوتينية أمام معضلةٍ كبرى، ومهام خارجيةٍ مركبةٍ، قد تربك الحسابات الروسية، وتنعكس سلبا على دور روسيا العالمي، لتفرض عليها التراجع في ساحاتٍ عدةٍ، وفق أولويات روسيا الخارجية، التي تبدو اليوم مرتكزة على الصراع مع أوكرانيا، أو مع المعسكر الغربي في أوكرانيا، كما تصفه القيادة الروسية.

في الحقيقة، قد تبدو التداعيات السابقة راجحة جدا على ضوء ما حصل أخيرا في روسيا، لكن يعتقد الكاتب أن من الخطأ التسليم بذلك سريعا، إذ يوحي نجاح الوساطة البيلاروسية وسرعتها بأمرين مهمين: الأول، براغماتية بوتين ومسارعته لحل النزاع مع “فاغنر” بأقل الخسائر الممكنة، وهو ما يعكس تحديد أولويات روسيا الراهنة، وإقرارا بتأثيرات الصراع مع “فاغنر” السلبية، وربما يدل على اعترافٍ بدور “فاغنر” في تحقيق مصالح روسيا الخارجية. وهو ما ينطبق على يفغيني أيضا، الذي قبل الوساطة، وسهل مهمتها، الأمر الذي يجعل الكاتب يستبعد تأثير ما حصل على ارتباط المجموعة بالدولة الروسية قريبا، من دون استبعاد تأثيرها على دور المجموعة في تحقيق مصالح روسيا الخارجية، إذ ربما يتراجع دور المجموعة تدريجيا رغم استمراره. ويتمثل الأمر الثاني في شبه تماسك الدولة الروسية، رغم الخلافات بين أبرز مؤسساتها، وبالتحديد بين المؤسستين العسكرية والأمنية؛ وفق بعض التقديرات، إذ ذهبت تقارير استخباراتية وإعلامية عدة إلى الربط بين تجرؤ يفغيني على مواجهة بوتين ومؤسسته العسكرية، وبين اطلاعه (يفغيني) على مؤشّراتٍ داخليةٍ تتقاطع مع مصالحه ومواقفه من المؤسّستين العسكرية والرئاسية، وهو ما لم يرق إلى درجة التعاون في ساعات الفوضى القليلة، الأمر الذي يؤشر إلى تخوف مؤسسات الدولة الروسية من الفوضى واستبعادها الحل الخشن، رغم امتلاكها القدرات العسكرية والأمنية، وربما المالية والإعلامية اللازمة، لحسم الصراع كليا. لكن وعلى الرغم من تماسك مؤسسات الدولة الروسية حاليا، إلا أن احتمال عودة الصراع، وربما تفجره، أمرٌ وارد الحدوث، في حال فشل بوتين؛ أو سواه، في رأب الصدع الروسي الداخلي، وهو ما دفع مراقبين عديدين إلى التكهن باحتمال فشل المصالحة الروسية، وعودة المواجهة العسكرية الداخلية.

بناء عليه، قد نشهد في قادم الأيام فصولا جديدة للفوضى الروسية، أو قد نشهد تبدلا نوعيا في المشهد الروسي الداخلي على مستوى إحدى المؤسستين العسكرية أو الأمنية أو كليهما، كما قد نشهد تبدلا في سياسات روسيا الخارجية، سيما على الجبهة الأوكرانية، يمكن حصرها في ثلاثة احتمالات: براغماتية روسية أو بوتينية تسعى إلى حل النزاع مع أوكرانيا؛ ومن خلفها أميركا وأوروبا، سلميا، وبأقل قدرٍ ممكنٍ من الأضرار، نظرا إلى أولوية إعادة ترتيب البيت الداخلي الروسي، إذ تعزز براغماتية بوتين في تعامله مع يفغيني ومجموعة “فاغنر” من هذا الاحتمال. المضي في الصراع مع أوكرانيا، واستمرار المؤسسة العسكرية الروسية في تعويض نقص قدراتها العسكرية البشرية، ذات الكفاءة القتالية العالية عبر الاعتماد على قواتٍ غير حكوميةٍ، لكن بعد استبدال قوات “فاغنر” بقوات رمضان قديروف، الأمر الذي قد يعزز الخلافات بين مؤسسات الدولة الروسية، ويرفع من مكانة قديروف، وربما يغريه بتحقيق مكاسبَ استراتيجيةٍ. المضي في الصراع مع أوكرانيا اعتمادا على قدرات روسيا الذاتية، عبر تجنيد مزيدٍ من الروس المتطوعين بعقودٍ مؤقتةٍ، أو من خلال استدعاء قوائم احتياطٍ جديدةٍ، وهو ما قد يعزز الغضب الشعبي والفوضى الروسية الداخلية على المستوييْن، الشعبي والرسمي.

على المستوى العالمي، من المستبعد أن تطاول تداعيات الفوضى الأخيرة في حال نجاح الوساطة البيلاروسية دول المنطقة العربية؛ سورية وليبيا تحديدا، نظرا إلى تراجع حدة المواجهات العسكرية فيهما، ونجاح روسيا، في الآونة الأخيرة، في تحقيق الحد الأدنى من التفاهم مع دول الإقليم، خصوصا مع تركيا وإيران والسعودية ومصر والإمارات، في حين قد نلمس تأثيرا ما على الساحة السودانية، تسعى روسيا من خلاله إلى إخماد المعارك وتهدئة الأوضاع السودانية الداخلية حتى إشعارٍ آخر. في حين تتقاطع بعض المصالح الروسية مع نظيرتها الصينية في القارة الأفريقية، ما قد يفتح الباب مستقبلا على تعاونٍ روسيٍّ – صينيٍّ استخباراتيٍّ وعسكريٍّ، يحد من اعتماد روسيا على مجموعة “فاغنر” في أفريقيا.

أخيرا؛ تضع الفوضى الروسية التي استجدت أخيرا مزيدا من الضغط على القوات الأوكرانية، التي لم تنجح في تحقيق أي انتصارٍ ذي قيمةٍ منذ بدء الهجوم المضاد مطلع شهر يونيو/ حزيران الحالي، خصوصا بعد تمكن قوات مجموعة “فاغنر” من السيطرة على مقار عسكريةٍ روسيةٍ عدةٍ. وعليه، تبدو أوكرانيا اليوم مطالبة بالهجوم الفعال والسريع، لاستثمار الفوضى الروسية أولا، وللتأكيد على كفاءة قدراتها العسكرية ونجاعتها ثانيا.

من ذلك كله، تبدو سياسات روسيا المستقبلية بعد الفوضى أخيرا أكثر غموضا مما قبلها، نظرا إلى صعوبة التكهن بنتائجها الداخلية، التي قد تنحو نحو التوافق أو نحو الصدام، وهو ما قد ينعكس خارجيا بتوجه روسيا نحو السلام أو نحو مزيد من العنف والقتل.

مقالات ذات صلة