هل هي لحظة انتحار روسية؟

ممدوح الشيخ

حرير- قد تعدّ تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي (19 أغسطس/ آب الجاري) ديمتري ميدفيديف الأخطر على الإطلاق في مسار الصراع الغربي الروسي على أوكرانيا، وهي من دون مواربة “لحظة انتحار روسية”، فقد انتقل بها الخطاب الروسي من التلويح بأن الخيار النووي على الطاولة دائماً، إلى تأكيد أن تحقيق هدف الحرب لا بديل له، ولو استمر الصراع عقوداً، والعبارة الأكثر دلالة في ما قاله ميدفيديف أنّ “الصراع وجودي… إما نحن أو هم”.

وفي استشراف ميدفيديف المستقبل فخ آخر قاتل، يقول: “سوف يمرّ بعض الوقت، ستتغير السلطات الغربية، وستتعب نخبها وتتوسل للمفاوضات وتجميد الصراع”، و”يجب ألّا نتوقف حتى يتم تفكيك الدولة الأوكرانية الحالية الإرهابية بطبيعتها بالكامل، يجب تدميرها على الأرض، أو بالأحرى حتى الرماد منها يجب ألّا يبقى، حتى لا تولد من جديد هذه الآفة تحت أي ظرف… إذا استغرق الأمر سنوات أو حتى عقوداً، فليس لدينا خيار آخر، إما أن ندمّر نظامهم السياسي المعادي، أو أنّ الغرب الجماعي سيمزّق روسيا في النهاية إلى أشلاء، وفي هذه الحالة سيموت معنا”.

الخطاب ذو وجهين: مرعب/ مذعور، فهو خطابُ يأس بقدر ما هو مغرقٌ في العدمية. وفي أقصى درجات حدّة المواجهة الأميركية السوفييتية كان هناك دائماً مكوّن عقلاني في مجلس السوفييت الأعلى، أثمر في بداية سبعينيات القرن الماضي “سياسة الوفاق” بين العملاقين. وتعكس تصريحات ميدفيديف هذه تحوّلات في التصوّر والواقع معاً، والتغير الرئيس من ناحية التصور تحوُّل أفكار ألكسندر دوغين “الأوراسية” إلى أيديولوجيا رسمية للدولة، وعودة النخبة الروسية إلى الإحساس العميق بالعداء الجذري تجاه الغرب كله، الأوروبي والأميركي معاً.

وبالعودة إلى ما تغيّر على مستوى الواقع، تحوّل محيط روسيا الاستراتيجي في السنوات القليلة الماضية إلى بحر عداوات متلاطم، من اليابان إلى السويد. وبالتالي، لم تعد أوكرانيا المشكلة، بل “رمز المشكلة”، والقضاء على أوكرانيا (أو نظامها السياسي) معركة “وجود” و”إرادة” بالنسبة لأميركا وحلف الناتو معاً، فما مصدر قناعة ميدفيديف “المتفائل” بأنّ الغرب سيتعب من عبء المواجهة و”يتسوّل” التفاوض؟ وما الذي يجعل أي صانع قرار في العالم ينزعج (أو يكترث بأية صورة) لفكرة اختفاء روسيا من خريطة العالم؟ وهذا الاختفاء مجرد افتراض. وقبلاً، على سبيل المثال، اختفى الاتحاد السوفييتي واختفى الاتحاد اليوغوسلافي، من دون أن يصل العالم إلى لحظة “نهاية التاريخ” النووية. وما حدث أنّ أوروبا تجاوزت كابوس انهيار اقتصادي بسبب الغاز الروسي، وتحرّكت أميركا لسنوات باتجاه خنق الاقتصاد الروسي بحزم عقوباتٍ متتالية، وأنّ ترتيبات تشمل ترميم تماسك حلف الناتو وزيادة تاريخية في إنفاقه العسكري، وتوسيعه شمالاً، وشبكة تحالفات أخرى تشمل العديد من دول آسيا، بينما روسيا في ما يعتبره ميدفيديف “صراع وجود” لا حلفاء لها إلّا بيلاروسيا!

وكلّ شطحات التفكير بالتمنّي التي راجت منذ بدء الحرب عن خراب أوروبا وتصدّعها، وتمرّدها على “الهيمنة الأميركية”، وتحييد العملاق الهندي، والتحالف الروسي الصيني الشامل الذي سينهي “العصر الأميركي”… إلى آخر القائمة، جميعها تبخّرت مع وصول المسيّرات الأوكرانية إلى العمق الروسي، فضلاً عن تضاؤل كبير في درجة اهتمام العالم بهذه الحرب. وباستثناء أزمة الحبوب العالمية التي تسبّبت فيها، على الأرجح ستتحوّل المعركة إلى كابوس اقتصادي على اقتصاد روسيا المنهك، ولا يُستبعد أن تتحوّل إلى كابوس عسكري حقيقي، أولاً من حيث هي استنزاف بشري لا مبرّر لدى المواطن الروسي العادي لتحمّل عبئه، وثانياً من حيث ما يمكن أن يُحدثه استهداف الداخل الروسي عسكرياً من نتائج على الدولة والمواطن معاً.

مشكلة روسيا ميدفيديف/ بوتين هي الانبهار المرضي بالغرب، عندما ينقلب إلى رغبة في الانتقام الوحشي كـ”عشيق مهجور”. والمرض قديم جداً في الثقافة الروسية الحديثة، وبالتحديد منذ عهد القيصر بطرس الأكبر في القرن الثامن عشر. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حاولت النخبة الروسية سنوات أن تكون جزءاً من “الجنة الأوروبية”، وترتيباتها السياسية والعسكرية، وهذه النخبة لم تنتقل من “الهيام” إلى “الانتقام” إلّا بعد أن يئست من طرْق باب الغرب من دون جدوى.

مقالات ذات صلة