حين تخجل من حزنك في حضرة غزّة

حلمي الأسمر

حرير- للموت بذخه أيضا، وطقوسه التي ربما “يحنّ” إليها من حرمها، أول موتٍ لم أتذوق طعمه كما يجب، كان موت أبي، كان موتا استثنائيا لم تتم طقوسه حتى الآن، بالنسبة لي على الأقل، رغم مرور ما يقارب أربعين سنة عليه، فقد قرأت نعيه في صحيفة فلسطينية تصدر في القدس المحتلة. أما كيف حصل هذا، فتلك حكاية تختصر وجها من وجوه التغريبة الفلسطينية، التي لم تبدأ بالقطع يوم 7 أكتوبر، كما كان يظنّ عامة شباب أوروبا، الذين باعوهم رواية مثخنة بالأكاذيب عن “الدولة” اليهودية النموذج في وسط عربي همجي. كنتُ حينها أعمل محرّرا في وكالة الأنباء الأردنية (بترا)، وكانت تأتينا صحف فلسطين عن طريق لجنة الهدنة، وهي الصلة بين الأردن وفلسطين المحتلة آنذاك، حيث لا صلة سلام ولا كلام رسميا بين “الدولتين” إلا عبر اللجنة. يومها سألني زميلي عن اسم أبي، وهو يبحلق في الصحيفة أمامه، فقلت له: “محمّد”، فتغيّر لونه، وقرأت الفاجعة على وجهه، تناولت الصحيفة من يده ويدي تسبقني، وقرأت نعي أبي!

يومها ذقت طعم موت غيابي، ولكن حضوره طغى على كل حضور، فلم يكن يومها أي تواصل هاتفي بين الضفتين، الشرقية والغربية، فأنا شرقي النهر وهم غربيه، ولا تواصل إلا عبر الرسائل التي ينقلها الصليب الأحمر، أو عبر برنامج “رسائل شوق” في الإذاعة الأردنية حيث كان ينقل “للمنزرعين في منازلهم” صوت كوثر النشاشيبي “سلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة” كما كانت تقول أغنية فيروز لازمة البرنامج. كان موتا فريدا بلا طقوس، فلا جنازة ولا بيت عزاء، ولا أم تبكي، ولا إخوة وأخوات يتحلقون حول الجثمان، ولا قبر ولا دفن وقراءة موعظة بعد أن يُوارى الجثمان التراب، ولا قهوة “سادة” تُدار على المعزّين. لا شيء من طقوس الموت “الباذخة”. فقط غربة عن الأهل وبكاء على راحل كنت رحلت عنه مبكرا، لا يوجد، فيما أعلم، قانون في العالم يحرم ابنا من وداع أبيه الأبدي، إلا أن يكون “قانونا” صهيونيا مجرما، يجرّم من يحب وطنه ويدافع عنها فيسمّى “مخرّبا” أو إرهابيا.

تبع هذا الموت الغيابي رحيل الوالدة رحمها الله، واثنين من الأشقاء وشقيقة، كلهم رحلوا رحيلا غيابيا، بلا طقوس، فالفتى الذي حمل شهادة الثانوية العامة وبضعة دنانير مغادرا الضفة الغربية شادّا الرحال للدراسة في الضفة الشرقية، كانت قوانين الاحتلال تمنعه من أن يودّع أباه وأمه قبل الرحيل الأبدي، وتلك من جرائم الاحتلال التي لا يعرفها أو يدّعي أنه لا يعرفها من يصر على أن “يدين” الكل ما يسمّيها “جرائم السبت الأسود”، حين عاد فتية من الجيلين الثالث والرابع للنكبة، من أبناء وأحفاد من طردتهم عصابات الصهاينة من وطنهم ليقتصّوا ويذلوا من سرقوا الأرض وطردوا أهلها واستوطنوا في بيوتهم!

وتدور عقارب الساعات والأيام والعقود، التي لدغت بسمّها النخاع الشوكي لأجيال، ويشب الأبناء والأحفاد عن إرث طويل من الهزائم والمرارات والخذلان، فيأخذوا زمام شعبهم بأمرهم، ويناجزوا عدوّا لم يعتد إلا على رفاهية الحروب الخاطفة، التي يعود منها جنوده محمّلين بالنصر والجوائز العينية والمعنوية، فيما يعود ضحاياهم بالجنائز والهزائم، يعود الفتية القسّاميون لأرضهم، فيهدموا وثنا طالما دار حوله المريدون وقدّموا له الضحايا والقرابين، ويمسحوا بكرامته الأرض، فتهتزّ الكرة الأرضية، وينشطر العالم كله إلى شظايا وكتل، مستكثرا على الفتى الشجاع الذي وثب على “أزعر الحارة” الجائر المتجبّر الباطش بالجميع، الذي يكاد يدفع الجميع له “الخاوات” والولاءات، ليصفعه صفعة تردّد صداها في أقاصي الأرض، ناقشا على وجهه خمس أصابع لن يزول أثرها، على مرأى ومسمع من حشود من دأبوا على تشجيعه، ومدّه بكل ما يحتاج لممارسة جبروته ومظالمه، فهو “الابن” المدلّل لعصابة الشياطين الذين يرسمون مصائر الشعوب، ويقسمون “الأرزاق” التي ينهبونها منهم، فكان “الطوفان” الذي أخرج الأزعر عن طوْره، فهاج يرتكب كل ما طاولته يده من جرائم ومذابح آملا أن ينال من الفتى مأربا، فلا تطاول يداه غير الضحايا الأبرياء، من العزل والأطفال الرضع..

وهكذا، كثر الموت، وحرم من لم يصبه سهمه من طقوسه “الباذخة” فلا بيوت عزاء في غزّة، بل لا بيوت في غزّة، بعد أن سوّيت أصلا بالأرض، وغدت قبورا جماعية لساكنيها، فلا معزّين ولا قهوة مُرّة، ولا حتى دفنا يليق بالراحلين، ولم أكن أدرك مرارة ما أشهد على شاشات النقل الحي، إلا حين فجعت في ذروة “الطوفان” بوفاة ابنتي، فخجلتُ من أن أحزن حزنا يليق برحيل فلذة كبد، وأنا أرى ذلك الموت الجماعي، بلا طقوس موت، ولا دفن اعتيادي، ولا جنازات “احتفالية” ومواكب سيارات تلحق بسيارة إسعاف تحمل الجثمان، ولا بيوت عزاء تجمع الرجال لممارسة السّعال وتبادل أحاديث السياسة والطقس، والنميمة أيضا. كم خجلت من أن أحزن على ابنتي التي رحلت بكامل طقوس الرحيل، فيما يرحل أهلي بالجرّافات والعربات التي تجرّها الحمير، بل لم يتسن لكثيرين منهم أن يرحلوا، بعد أن تحوّلت بيوتهم إلى مقابر، وبعضهم مات بالتقسيط، فقد تسبقه يده أو ساقه أو حتى كل أطرافه إلى موتٍ مجزّأ، فأنّى لي أن أمارس كامل حزني “المترف” على من وجدتُ في المستشفى عناية لم يجدها آلاف من الجرحى والمرضى، وماتت ورحلت، كما ينبغي لكل إنسان أن يغادر الدنيا إلى الآخرة، فيما يحرم أولئك الصغار والكبار المرضى والأصحّاء، الأطفال وأمهاتهم، حتى من طقوس الموت الاعتيادية؟

فمعذرة، يا غزّة، ولك العتبى حتى النصر، ولعلك بالغته ولو كره الأعداء و”الأعدقاء” والأخوة الأعداء.

مقالات ذات صلة