يومَ لم يُصْغِ الصهاينة المؤسّسون إلى فرويد

جورج كعدي

حرير- لم يهدأ تحويم الصهاينة، منذ وفادتهم الاستعماريّة الاستيطانيّة الإحلاليّة إلى أرض فلسطين التاريخيّة، حول المسجد الأقصى، حالمين بهدمه وإقامة هيكلٍ مزعوم مكانه، ولا يمنعهم من ذلك سوى خوفهم وجبنهم، ومعرفتهم أيضاً أنّهم في عملٍ أحمق كهذا، إن أقدموا عليه، إنّما يهدّدون وجودهم من أساسه. هم منذ إنشاء دولتهم المخترعة الباطلة الآيلة عاجلاً أم آجلاً إلى زوالها المحتوم، يحلمون ليل نهار بهدم سائر المقدّسات، الإسلامية والمسيحيّة، لتهويد القدس وسائر فلسطين تهويداً كاملاً، وربما لا يدركون حقيقة أن حلمهم سيبقى مجرّد حلم … حتى توضيب الحقائب مجدّداً والرحيل عن أرض الشعب الأصيل ومقدّساته. وهم لم يصغوا منذ ما قبل إعلان إنشاء “دولتهم” المسخ عام 1948 (بقوّة الانتداب البريطاني لا بقوّتهم أو “عبقريتهم”) لليهوديّ الكبير المتنوّر ورائد علم النفس والتحليل النفسيّ زيغموند فرويد، أحد أكبر الأدمغة التي أنجبتها البشرية ومن أكثرها شهرةً وتأثيراً.

وجّه فرويد، في 26 فبراير/ شباط 1930 إلى اليهوديّ أيضاً والعالِم الفيزيائيّ ذائع الشهرة عالمياً، آينشتاين، الرسالة الآتية: “لستُ أعتقد أن فلسطين ستصير ذات يوم دولة يهودية، وأنّ العالم المسيحيّ أو العالم المسلم سيقبل يوماً بأن يدع الأماكن المقدّسة في أيدي اليهود. وكنتُ لأُحسنَ الفهم أكثر لو تمّ تأسيس وطن يهوديّ فوق أرضٍ عذراء لا ترزخ تحت وطأة التاريخ، ولستُ بقادر على أن أجد في نفسي ظلّاً من التعاطف مع ذاك التديّن الذي ضلّ سبيله فأراد تأسيس ديانة قوميّة على حائط هيرودوس، والذي لا يتوجّس، حبّاً منه بتلك القطع من الحجارة، من أن يصدم مشاعر السكان الأصليين”.

وفي 26 يونيو (حزيران) 1930، كتب فرويد رسالة إلى الطبيب النمساويّ الصهيونيّ حاييم كوفلر ردّاً على طلبٍ وجّهه الأخير إليه وإلى شخصيات فكرية وعلمية أوروبية بارزة عديدة، وفرويد كان من أبرزها، كي يوقّعوا عريضة احتجاج ضدّ عرب القدس لما يقومون به من “أعمال شغب وعنف”(!)، بحسب هذا الطبيب الصهيونيّ، لمنع اليهود من الوصول إلى حائط المبكى الذي يشكّل جزءاً من المسجد الأقصى. وبقيت رسالة فرويد الجوابيّة سرّاً مكتوماً أكثر من 70 عاماً، بعدما كان المُرسَل إليه، كوفلر، قد سلّم الرسالة إلى ناشط صهيونيّ يمينيّ متطرّف يهوى جمع تواقيع في القدس اسمه أبراهام شوادرون، على أن يتعهّد هذا الأخير بـ “ألّا يتاح لأي عينٍ بشريةٍ أن تقع عليها”، والمقصود رسالة فرويد الجوابية إلى كوفلر. ووفّى جامع التواقيع بتعهّده، ولم يُكشف عن مضمون الرسالة إلّا بعد مرور 75 عاماً (عام 2005) حين نشرتها مجلة “سيينّا” الإيطالية، تزامناً مع صدور كتاب “أرض الميعاد” لمؤلفه ميشيل رانشيتي، المعني بتاريخ الكنيسة والتحليل النفسيّ معاً. وأخذت الرسالة طريقها إلى الرأي العام الإيطالي، ثم الأوروبي والعالمي، بعدما أعاد الصحافي باولو دي ستيفانو نشرها في الصحيفة اليومية الإيطالية “إيل كورييره ديلّلا سيرا”.

نصّ رسالة فرويد: “عزيزي الدكتور، لستُ بمستطيع أن أفعل ما تتمنّاه. إننّي أشعر بنفسي عاجزاً عن التغلّب على نفوري من إثارة اهتمام الجمهور بشخصي، ولا يبدو لي أنّ من شأن الظروف الحرجة الحالية أن تحملني على فعل ذلك. فمن يشأ أن يؤثّر في الجمهور الكبير عليه أن يقدّم إليه شيئاً مدوّياً ومثيراً للحماسة. في حين أنّ حكمي على الصهيونيّة لا يسمح لي بشيء من ذلك (…). لا أعتقد ألبتّة أنّ من الممكن أن تصير فلسطين دولة يهودية، ولا أنّ العالمين المسيحيّ والإسلاميّ مستعدّان لأن توضع أماكنهما المقدّسة تحت إشرافٍ يهوديّ على أرضٍ ترزح تحت مثل ذلك الثقل التاريخيّ، لكنّي أعترف بأنّ وجهة نظر عقلانيّة كهذه ما كان لها حظّ كبير في أن تحظى بحماسة الجموع، وبالدعم الماليّ من الأثرياء. إنّي أسلّم بحزنٍ بأنّ التعصّب اللامبرّر من مواطنينا قمين بتحميله جزئيّاً ملامة إيقاظ ريبة العرب. ولا يسعني أن أكنّ تعاطفاً مع ضربٍ من التديّن أساء اختيار وجهته، ومن شأنه أن يحوّل جزءاً من حائط هيرودوس إلى معلمٍ قوميّ، ولو على حساب جرح مشاعر السكّان الأصليين. فلتحكُم بنفسك الآن ما إذا كنتُ أنا المؤهّل، بوجهة النظر النقديّة التي أُعلنُها، لتقديم المؤازرة لشعبٍ أسلم زمام أمره لوهم أملٍ ليس له ما يبرّره”.

لا وقت أكثر ملاءمةً وإلحاحاً من الوقت الفلسطينيّ الراهن لاستعادة القليل مما قاله الكبير والخالد فرويد في موضوع المشروع الصهيونيّ، مذ بدأ يُعدّ ويُعمل على تحقيقه فوق أرض فلسطين، ولكونه رجل علم وموضوعية، على ما وصف نفسه في رسالةٍ إضافيّة إلى يسرائيل كوهين، الصحافيّ والزعيم الصهيونيّ الإنكليزيّ – البولنديّ الذي كان وجّه إلى فرويد نداءً بوصفه أمينا عاما للمنظمة الصهيونية العالمية، طالباً له “الدعم والمؤازرة” (بوصفه علما كبيرا من أعلام الفكر). ولم يُعثر على النصّ الألمانيّ الأصليّ لرسالة فرويد الجوابيّة إلّا عام 1987، علماً أنّها كانت نُشرت بالإنكليزية للمرة الأولى في مجلة “الرقيب اليهوديّ والشرق الأوسط” في عدد 4 يونيو/ حزيران.

وكان ردّ فرويد على كوهين: “سيدي المحترم، علاوةً على شكري لترحابك بوصولي إلى إنكلترا أضيف هذا الرجاء: أرجوك ألّا تعاملني كزعيم إسرائيل ̔ وأحبّذ ألّا يُنظر إليّ إلّا بكوني عالماً متواضعاً، وألّا أوصف بغير ذلك. ومع أنّي يهوديّ صالح لم ينكر قطّ يهوديته، لا يسعني مع ذلك ألّا أُدرك أنّ موقفي السلبيّ حيال كلّ دين، بما فيه الدين اليهوديّ، يبعدني عن غالبية صحابتي ويجعلني غير صالح للدور الذي تودّ ترشيحي له”.

من مضمون هذه الرسائل، وغيرها العديد ممّا يضيق به المجال، يمكن أن نخلص إلى رؤية فرويد الفذّة بشأن مستقبل المشروع الصهيوني في فلسطين، والذي بدأنا نشهد إرهاصاته اليوم، فعالم النفس الشهير كان مؤمناً بأنّ فلسطين لن تصبح يوماً دولة دائمة وثابتة و”أبدية” لليهود، وأن المسلمين والمسيحيين لن يسلّموا مقدّساتهم إلى الصهاينة بأيّ شكل، وأنّه كان على الصهاينة البحث عن أرض بلا سكان وبلا تاريخ لإقامة دولتهم المزعومة، وأنّ اليهود الصهاينة ضلّوا الطريق إلى “دولة قوميّة” تستند إلى بضعة أحجار (الحائط الذي بناه القائد الروماني هيرودوس الذي يُطلق عليه الصهاينة في فلسطين المحتلّة إسم “حائط المبكى” بينما هو بالنسبة إلى الفلسطينيين تاريخياً “حائط البراق” المرتبط إسلاميّاً بليلة الإسراء والمعراج، وهو في عرفهم وإيمانهم جزء من المسجد الأقصى ومن التاريخ الإسلامي لا اليهوديّ). وأنّ وجود الصهاينة على أرض فلسطين المحتلّة يصدم مشاعر السكان الأصليين، والتعبير هو دائماً لفرويد الذي يقدّم شهادة تاريخية مُفحمة تُناقض على نحو مطلق مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وأنّ بعض الشعب اليهودي أسلم زمام أموره لوهم صهيونيّ ليس له ما يبرّره، وأنّه يرفض أن يعامَل كـ”زعيم في إسرائيل” إذ لم يؤمن يوماً بمشروع هذه الدولة أصلاً، وأنّه غير صالحٍ للدور الذي شاءت الحركة الصهيونية، بفروعها وأذرعها، أن توليه إيّاه، طمعاً بعبقريته وشهرته وعلمه، وخصوصاً بدينه الأصلي الذي لم يكن يعني له شيئاً سوى من ناحية الانتماء الثقافي لجماعة، ومن ناحية أنّ الكائن لا يسعه تبديل جلده تبديلاً كاملاً.

ما حصل في الأسابيع الأخيرة، وما لا يزال ممكن الحصول في أيّ ساعة، من انتهاك مجرم، غير إنسانيّ، وغير مسموح في كلِّ الشرائع الدينيّة والشُرْعات الدولية، للمسجد الأقصى وضدّ المصلّين أو المعتكفين، وأيضاً في حقّ المسيحيين وتقييد حرّية ممارساتهم الدينية في كنيسة القيامة وبيت لحم وسواهما، وإن بدرجةٍ يمكن وصفها بـ “أقلّ وحشية”، يردّنا حكماً وتوّاً إلى نبوءة فرويد ورؤيته الفذّة التي أصابت كبد الحقيقة منذ ثلاثينيّات القرن الفائت، إذ كان السبّاق إلى رؤية فشل المشروع الصهيوني الذي يحتلّ بإجرام ووحشيّة أرضاً ليست أرضه، و “مُلكاً ضائعاً” يزعمه ويدّعيه على نحو مفعم بالبطلان والتهافت، وخصوصاً رؤيته أنّ المسلمين والمسيحيين لن يتخلّوا عن مقدّساتهم لهذا المحتلّ مهما طال زمن احتلاله الآيل يوماً (نأمله قريباً) إلى الزوال وعودة فلول المحتلين وشذّاذ الآفاق إلى من حيث أتوا، غرباً وشرقاً، والأهم الأهمّ أن هذا الانتهاك للمقدّسات، وتحديداً للمسجد الأقصى، يستفزّ يوميّاً مشاعر ملياري مسلم في العالم، بمن فيهم شعوب الدول التي طبّع حكّامها مع الكيان المحتلّ ولم تتقبّل شعوبها ذاك التطبيع.

مسألة الأقصى كبيرة جداً بالنسبة إلى المسلمين الذين يُدركون، أو لا بدّ من أن معظمهم يدرك، رمزيّتها وتاريخيّتها التي تعيدنا إلى زمن نبيّ الإسلام، إذ وردت في القرآن الكريم الآية من سورة الإسراء {سبحانَ الذي أَسرى بعبده ليلاً من المسجدِ الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَاركَنا حَوْلَه لنُريه من آياتِنا إنَّهُ هو السميعُ البصيرُ}. والمسجد هو المقدّس الثالث في عظمة القيمة والمرتبة الدينيتين وقبلة المسلمين الثالثة بعد الكعبة والمسجد الحرام في مكّة المكرّمة، وجعله النبيّ محمد، الصلاة والسلام عليه، في منزلة رفيعة جداً حجّاً إليه وقبلة صلاة. فهل يمكن لخيال بشريّ أن يتصوّر مسلمي فلسطين والعالم العربيّ ومسلمي العالم كلّه بجهاته الأربع، ومن أقصاه إلى أقصاه، ساكتين إزاء ما يحصل في باحات المسجد وداخل حرمته على أيدي يهود صهاينة مسعورين وبقيادة من مجرمين وبحماية من الجيش المحتلّ؟ من يسعه تخيّل ذلك؟ بل على العكس، على المسلمين أن يرفعوا الصلوات إلى الله كي “يُهدي” الصهاينة بأن يُقدموا على العمل الأحمق المنتظر فيسرّعوا في اشتعال غضب المسلمين ليقتلعوهم دفعة واحدة، ويُظهروا لهم ماذا يعني المسّ بالمقدّسات، فتتحقّق عندئذٍ نبوءة فرويد وتصحّ رؤياه التي استشرفت مستقبل الصراع قبل نحو مائة سنة.

حين سينقذ المسلمون مقدّساتهم ويحرّر الفلسطينيون أرضهم التاريخية، ستُنقذ أيضاً المقدّسات المسيحية، ففلسطين لم تعرف يوماً في تاريخها المديد فرقاً أو تمييزاً بين المقدّسات الإسلامية والمقدّسات المسيحية، ولم تشهد يوماً حالة طائفية أو مذهبية. فلسطين هي المنارة والمثال، قبل أي دولةٍ في منطقتنا العربية، تآخياً وحبّاً وعيشاً واحداً. ستعود فلسطين لأهلها، مسلمين ومسيحيين ويهوداً مسالمين (إذا شاؤوا وقبلوا). هكذا رأى الكبير فرويد، ولستُ أنا المؤمن بذلك مَنْ رأى وتوقّع.

مقالات ذات صلة