المثقف والفاعلون الجُدد

كمال عبد اللطيف

حرير- يتكاثر في السنوات الأخيرة في العالم أجمع عدد المدوِّنين، كما تتزايد مِنَصَّات التدوين وتتنوع أشكالها وألوانها وموضوعاتها. لا نشير هنا إلى الصفحات الفيسبوكية، وما يماثلها أو يختلف قليلاً أو كثيراً عنها. ولا نقصد المدوّنات المرتبطة بحكايات اليومي وجريانه الاعتيادي، والمدوّنات المختلطة بأحلام النجوم وهلاوسهم، وقد أصبح بإمكان أصحابها تلميع صورهم، وتحويل حياتهم إلى تجربة قابلة للتعميم، من دون خوفٍ ولا خجل ولا حرج.. ولأن الكتابة والصورة والتصوير في جميع مظاهرها، لم تعد مرتبطةً في الفضاءات الرقمية بلغة وقواعد مضبوطة، فقد امتلأت صفحات فاعلين جُددٍ كثيرين بنصوص وعبارات لا علاقة لها بأنماط الكتابة كما تبلورت في التاريخ.

يمكن لكل من يلج أبواب الإنترنت أن يتبيّن أن صفحات المدوّنين تتجّه اليوم لترسيخ جملة من القواعد والأشكال الخاصة بها، سواء في الكتابة أو في مختلف المواد المُشَكِّلة لمحتواها.. ولا يستبعد ما أشرنا إليه، التذكير بانخراط بعض المدوّنين بطرقهم الخاصة، وحساسيتهم المختلفة عن حساسية المثقفين في تدوين مواقف سياسيةٍ مرتبطةٍ بقضايا الشأن العام. وقد عكست تدويناتٌ كثيرة لهم في معارك الربيع العربي على سبيل المثال، مواقف وخيارات كاشفة لبعض جوانب انخراطهم في المجال السياسي.

قبل بروز هذا النمط من الكتابة، كان قد سبقه نمط آخر يحمل صفة التقرير والخِبرة. وتميّز أصحابه بالتخصّص والدراية، فارتفعت أسهمهم في المجالين السياسي والمعرفي، وأصبحت المؤسّسات تحرص على منحهم جملة من الأدوار، التي كانت تمنح في السابق للمثقفين. تَمَّ نَعْتُ خِبراتهم وتقاريرهم بطابعها التقني والمحايد، رغم أن الحياد صفة لا تنطبق دائماً على أعمالهم. وقد ترتّب عن تكاثر المدوّنين وتزايد عدد الخبراء والتقنيين، تَقَلُّص عدد المثقفين والتزام من تبقّى منهم بالصمت.. وبدأ العالم يستأنس بهذه المسألة، ويحاول ربطها ببنية التحوّلات الجارية في عالم تملأه اليوم وسائط اتصال جديدة ومتطوّرة، ويعتمد في عمليات تعقله للمتغيرات التي تخترقه على مختلف المستجدّات التقنية.

بدأ الحديث منذ نهاية القرن الماضي عن غياب المثقفين وخفوت صوتهم. وتَمّ تفسير الظاهرة بنهاية عصر الإيديولوجيات والسرديات الكبرى، نهاية المثقف الداعية. ومقابل ذلك، امتلأت الشبكات والفضاءات الافتراضية بكتاباتٍ وأحاديث وصور لا علاقة بينها وبين الكتابات التي أَلِفَ المجتمع انتظارها من النخب المثقفة، حيث كانت الطلائع المثقفة وريثة أدوار المثقف النهضوي، تساهم في معارك التحرير وتواصل التفكير في النهضة والتقدّم، كما تجتهد في بناء ما يُسعف بإضاءة وتنوير المجتمع.

زحزح الخبراء منذ سنوات صورة المثقف القريب من الفاعل السياسي، أي صورة المثقف الملتزم بالعمل السياسي، ورغم وجود مثقفين داخل الفضاء الحزبي والمشهد السياسي، ووجود سياسيين مثقفين، فإننا نتصوَّر أنه لا ينبغي الخلط بين المجال الثقافي وحقل الممارسة السياسية، بأدواتها ووسائلها الخاصة والمتميّزة عن الوسائل والأدوات الثقافية … إنهما يلتقيان ويتقاطعان في الآن نفسه، ويتمّم الواحد منهما الآخر، إلا أنهما لا يتطابقان ولا يشتغلان بأدواتٍ واحدة.. ونتصوَّر أنه وضمن حدود ما استأنسنا به، من أنماط الفكر والسياسة في التاريخ، لا يمكن الاستغناء عن أي منهما.

يتضمّن مبدأ الاكتفاء بتحويل المثقف إلى مجرّد فاعل سياسي، نوعاً من تبخيس الأدوار التحرّرية للثقافة والفكر في المجتمع، إضافة إلى أن هذا الموقف يُغْفِل وجود مثقفين منخرطين عديدين في العمل السياسي، ووجود بعض الفاعلين السياسيين الذين يتفاعلون بقوة مع مكاسب المشهد الثقافي. ونتصوّر أن الصورة المرغوب فيها للمثقف، صورة المثقف السياسي، يهيمن عليها نوعٌ من النفور من الخبير وأدواره، ومن المدوّنين بمختلف صورهم، علماً بوجود خبراء ومدوّنين كثيرين يجمعون بين مقتضيات الخبرة والتدوين الحرّ والالتزام السياسي.

المثقف المرغوب فيه مناضل سياسي أولاً وقبل كل شيء، أما المثقف حامل الخبرة المعرفية والتاريخية، فيُصَنَّف في عِدَاد الذين يعملون لحساب جهاتٍ أخرى. كما ينظر إلى المدوّن ومن على شاكلته من الفاعلين الجُدد نظرة خاصة تصنّفه في دائرة الذاهلين عن كل ما يجري أمامهم.. وفي هذه المواقف تبسيطٌ للمسألة، وتغييب لمستجدّاتٍ ومتغيّرات ثقافية وسياسية وتقنية، تمتلك اليوم دوراً كبيراً في تركيب ملامح صُور جديدة للمثقف في مجتمعنا. ويكشف ما يجري اليوم في العالم وفي الشبكات المحاذية له، أننا أمام وضع أكثر تعقيداً من التسميات والإسقاطات، وضعٍ يستدعي مقدّماتٍ أخرى، وأدوات جديدة في الفهم والتحليل..

يواجه المثقف اليوم مجموعة من المنافسين الجُدد، وهم جميعاً يقومون بأدوار متشابهة… إنه يواجه جحافل المدوّنين الذين ملأت أعمالهم أرض الفضاءات الافتراضية وسمواتها، وتمكّنوا من تحقيق حضور طاغ في وسائل التواصل الاجتماعي. ولم يعد بإمكانه اليوم، أن يصنع ما كان يفعله في زمن آخر. وقد ساهمت مختلف التحوّلات التي عرفها العالم، نهاية القرن الماضي وبدايات هذا القرن، في منح الفاعلين الجُدد فضاءات للإنتاج والحضور والفعل. وظلّ المثقف الحريص على نمط بعينه من الحضور، المقترن بأسئلة السياسة والتاريخ والنهضة والتقدّم شبه معزول. وانطلاقاً مما ذكرنا، نتصوّر أن استعادة روح المثقف تقتضي نوعاً من المواجهة النقدية، مع ذاته من جهة، ومع إنتاج الفاعلين الجُدد، ومع إنتاجهم وقد اصبح يملأ كثيراً من أوجُه الثقافة في عالمنا.

تزداد أهمية الصورة الجديدة للمثقف، وهي تستوعب عيّنة من الخبراء والمدوّنين، عندما نقرنها بواقع التحولات القائمة والجارية. والإشارة هنا إلى تحوّلات القيم السياسية، التي تتجه اليوم لبناء فضاءات ومؤسّسات وفاعلين بمواصفات خاصة. كما نشير إلى تحولات الفكر ومآزقه، حيث تختفي المدارس والعائلات الفكرية الكبيرة، لتنشأ بدائل فكرية تنحو نحو بناء تصورات مفتوحة ومتفاعلة، مع متغيرات تصنع اليوم الملامح العامة لفكر في طور التَّشَكُّل، فكر تساهم طفرات المعرفة المرتبطة بالثورات التقنية وتبعاتها في بلورة إرهاصاته الكبرى.

ستُضاف إلى مهام المثقف الذي نتطلّع إلى أدواره النقدية والتنويرية اليوم مهمة نقد ومحاصرة منتوج الفضاءات الافتراضية، وقد أصبح لها اليوم حضور قوي صانع لكثير من مظاهر البلاهة في مجتمعنا. إنه مطالب بدور جديد في الفضاءات الزرقاء، التي امتلأت في السنوات الأخيرة بكثير من المدونات المحافظة، وبصورة لا علاقة لها بطفرة العلوم والمعارف والتقنيات في عالم جديد.

مقالات ذات صلة