الإخوان المسلمون… قدسية التنظيم أم الرسالة؟

محمد أبو رمان

حرير- يواجه جمهور الإخوان المسلمين أيّة دعوة أو فكرة تناقش مسألة مدى أهمية بقاء التنظيم واستمراره بقدر كبير من الغضب والشكّ في النوايا، وهذا أمر مفهوم، فـ”الإخوان” أصبحت جماعة ذات تاريخ وإرث وميراث ومدرسة وهوية لأجيال كثيرة منذ ما يقارب قرناً. وعندما طرح المفكّر الإسلامي، محمد سليم العوا، فكرة تخلّي الجماعة عن النشاط السياسي والاكتفاء بالدعوي والتربوي ثارت ثائرة كثيرين عليه، وهي مشاعر مفهومة عاطفياً لكن بالمساءلة العقلانية والواقعية ضمن حسبة المصالح والمفاسد الفقهية التي تمثّل مرجعية للحركات والجماعات الإسلامية، فإنّه لا قدسية ولا عصمة للتنظيم إذا كانت كلفة بقائه أكبر من المصلحة المترتبة عليه في ذلك!

لا أدّعي الحسم ولا أطالب “مفكّري” الجماعة بأخذ هذا القرار، لكن ما أدعوهم إليه أن يصل مستوى النقاش إلى مرحلة جذرية متعلقة بأهداف الجماعة وغاياتها ومراجعة مساراتها، وليس فقط مراجعات جزئية لبعض السياسات والقرارات. وما لا يعلمه كثيرون أنّ مثل هذا التفكير طرحته، في بعض الأحيان، قيادات وازنة في الجماعة ومفكّرون، لكن على صعيد ضيّق وليس مفتوحاً، وقد أخبرني أحد الأصدقاء الموثوقين بأنّ قياديين تاريخيين بارزين في جماعة الإخوان في الأردن، وفي التنظيم العالمي للجماعة، وهما عبد اللطيف عربيات وعبد الحميد القضاة، قد كتبا (ما بين عامي 2014 و2015) وثيقة يدعوان الجماعة الأم فيها إلى مراجعة المسار ومدى جدوى بقاء الجماعة في الصيغة القائمة، والبحث عن صيغ جديدة تتعامل مع المتغيّرات، بالانتقال من الهرمية إلى الشبكية ومن التنظيم إلى المجتمع. وللأسف، لم تر الوثيقة التي أرسلت إلى القيادة الأممية للجماعة النور، ولا نستطيع الاطلاع على ما تضمّنته بصورة دقيقة، وقد جاءت بمناسبة التطورات الكبيرة بعد الربيع العربي، بخاصة في مصر بعد تدخل الجيش وعزل الرئيس الأسبق الراحل محمد مرسي.

هل تصل الدعوة إلى مراجعات جذرية إلى مستوى بقاء التنظيم أو أن إعادة هيكلة دوره مرتبطة بالظروف الأمنية الراهنة في العالم العربي أو إعلان عدة دول الجماعة بوصفها جماعة إرهابية؟ ليس بالضرورة، وإنْ كانت تلك أسباب مهمّة لأن تؤخذ بالاعتبار وتقارن الكلفة والمفاسد والمصالح، ما بين أهمية التنظيم والمصالح المهدورة من تغييب طاقات شباب الجماعة المبدعين وإمكاناتهم، فقط لمجرد أنهم في التنظيم من جهة أخرى.

مع ذلك، ثمة أسباب وعوامل أخرى وجيهة ومهمّة، منها انتهاء الأسباب والشروط والسياقات التي أدّت إلى تأسيس الإخوان وانتشار الفكرة في عقود سابقة طويلة. ومعروف أنّ الجماعة تشكّلت بدايةً كمشروع اجتماعي – ثقافي، جاءت ردّاً على إعلان كمال أتاتورك الخلافة من جهة وانتشار موجة التغريب في أوساط الطبقة الوسطى والمثقفين، ولم يتمثّل مشروع الجماعة بتجديد فقهي أو فكري، وإنما كان إحيائياً. وقد تجاوز “الإسلام الاجتماعي” اليوم مشروع الإخوان، الذي هو نفسه لم يعد يكترث كثيراً بالشأنين، الدعوي والاجتماعي، وتغلّب عليه البعد السياسي، بينما لم يعد هاجس التغريب كبيراً، بصورته التقليدية (اليوم عالم السوشال ميديا يحمل مخاطر أكبر ذات طابع مختلف على ثقافة المجتمعات المسلمة)، كما أنّ هنالك جماعات ومجموعات دينية عديدة أصبحت تقوم بهذا الدور، ما يعني أنّ الجماعة بحاجةٍ إلى مناقشةٍ نقديةٍ معمّقةٍ لمهمّتها الاجتماعية والدعوية والحضارية.

تبدو المسألة على صعيد الشق السياسي أكثر وضوحاً، إذ تبنّت أغلب فروع الجماعة خلال الأعوام السابقة مبدأ فصل الجانب الدعوي عن السياسي، وتخلّت عن طروحاتها التقليدية (إقامة الدولة الإسلامية، والإسلام هو الحل) وغيرها، كما أنّها قدّمت برامج ذات طبيعة اقتصادية وسياسية تبتعد كثيراً عن الكلاسيكيات الإسلامية المعروفة والوعود التاريخية بإقامة دولة إسلامية، وأصبحت الطموحات لدى الإخوان السياسيين أكثر تواضعاً بكثير، وذات نزوع واقعي، وفشل كثير من هذه الحركات في التقاط الحالة الشعبية، وتقديم حتى حلول واقعية مقنعة لها، وظهر ذلك في توجّه نسبة كبيرة من الشباب إلى انتخاب قيس سعيّد في تونس، وخسارة فادحة لهم في انتخابات المغرب التي أنهت ما يقارب عقداً من مشاركتهم في السلطة التنفيذية والحكومات.

بدأت اليوم تظهر مرحلة ما بعد الإسلام السياسي بوضوح، ونجد أنّ جماعة، مثل إخوان الأردن مثلاً، أصدرت وثيقة سياسية، وأعادت النظر في نظامها الأساسي، وتخلت عن علاقتها التنظيمية (شكلياً) بجماعة الإخوان الأمّ، والأخيرة دخلت في صدامات داخلية وأجنحة وصراعات كبيرة، بينما انشقّت مجموعات من الشباب من جماعة الإخوان معها قيادات فاعلة في الأردن، وهكذا لم تقتصر الأزمة على الصعيد السياسي الداخلي، ولا حتى الإقليمي للجماعة، بل امتدّت لتصل إلى مستوى التنظيم وتتعمّق وتتجذّر!

ثمّة معلومة يعرفها ويتجنّبها، في الوقت نفسه، كثيرون من الإخوان المسلمين، وتتمثّل في أنّ الجماعة أصبحت ممرّاً للقيادات والكفاءات الفكرية والعلمية والسياسية، لأنّ الحالة التنظيمية لم تعد تحتمل هذه النخبة، التي إما تفضّل الخروج والانشقاق والابتعاد أو التواري إلى الظل والاكتفاء بالوجود في التنظيم من دون فعالية. وهنالك أمراض تنظيمية غزت الجماعة، كحال أي تنظيم آخر، فهنالك دائماً أوليغاركية تنظيمية (على حد تعبير العالم السياسي – السوسيولوجي، روبرت ميشلز، لم تنفذ منها حتى الأحزاب اليسارية!) تصيب جميع التنظيمات، وهو ما أصاب الإخوان وأصبحت لديهم مشكلات وأمراض تنظيمية طاردة للكفاءات والإمكانات الباهرة.

هل ما نقوله يعني نهاية “المشروع الإسلامي” أو “الإسلام السياسي”؟. الجواب لا، بالضرورة، بل هو إيجاد صيغة وأفكار وثقافة جديدة تتناسب مع التحولات العميقة التي حدثت في العالم خلال قرن من الزمن، فالتنظيم ليس مقدّساً والتعاليم التي جاء بها حسن البنا ليست منزّلة، والجماعة هي اجتهاد كفكر وكتنظيم وكحركة، وكلما كانت هنالك قراءات فكرية استراتيجية تتجاوز الحسابات الجزئية والتنظيمية وتفكّر في المجتمعات والشعوب بصورة عامة، تكون القدرة على الحكم أفضل، مع التذكير بأنّ أحد الأمراض التنظيمية الذي كان يتحدّث عنه بصورة مستمرة، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين الأسبق، عبد المجيد ذنيبات، هو “تكدّس الطاقات الشبابية، وعدم قدرة التنظيم على توزيعها واستثمارها وحالة التكلّس الداخلي”!

مقالات ذات صلة