أميركا وحل الدولتين على الطريقة الهندية

تأتي اليوم عملية إنعاش حل الدولتين أميركياً بعد فشل صفقة القرن التي روّجها الزعيم الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي خلّفت محاولات محمومة للتطبيع، أبرزها مع السعودية.

حرير – يتحرك الأميركي في محاولة إنعاش مفهوم حل الدولتين للصراع العربي الإسرائيلي على أرضية خبرة عريقة في التعامل مع هذا المفهوم. وهنا، لا يقتصر الأمر على التلاعب الأميركي في الملعب الفلسطيني منذ النقاط العشر عام 1974، مروراً بمؤتمر مدريد 1991، حتى اتفاقية أوسلو 1993، وما تمخض عنها من بحث عن حلقة مفقودة لا يزال الساسة يلهثون خلفها بلا طائل.

الخبرة الأميركية في حل الدولتين تنطلق بالأساس من 28 اتفاقية وقعتها مع الهنود الحمر لإقامة دولة هندية في أميركا، وهم سكان أميركا الأصليون، حتى انتهى الأمر بإبادتهم بعد اتفاقية “نورت بيت” التي تشبه ما جاء في اتفاقية أوسلو. والعجب أن يقوم الأميركيون الأوائل بقتل الزعيم الهندي وايت إيز بالسم في حالة تشبه كثيراً شكل نهاية الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.

وكلما وقُعت اتفاقية مع الهنود خرقها الأميركي سريعاً، واجتاح عسكرياً واستوطن المنطقة التي خضعت للاتفاق. وعندما كان الهنود يحتجون، كان الأميركي يطلب مفاوضات جديدة وإرسال وفد جديد للتفاوض وتوقيع اتفاقيات جديدة يتم خرقها. وهكذا إلى أن استوطن الأميركيون كل الأراضي وبالقوة، ولم يبق ما يتم التفاوض بشأنه، لتتوقف المفاوضات منذ أكثر من 200 عام ويتبدد الهنود الحمر.

تأتي اليوم عملية إنعاش حل الدولتين أميركياً بعد فشل صفقة القرن التي روّجها الزعيم الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي خلّفت محاولات محمومة للتطبيع، أبرزها مع السعودية.

وقد استهلّ الرئيس الأميركي جو بايدن فترته الرئاسية بتجاهل شبه تام للقضية الفلسطينية، وتراجع حاد عن وعوده خلال الانتخابات، وهي وعود تعكس رؤية الحزب الديمقراطي الأميركي للتسوية السياسية بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، فلم يتراجع عن نقل ترامب السفارة الأميركية إلى القدس، ولم يُعد فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وحتى المعونة المالية الأميركية للسلطة وأجهزتها تم اختزالها بشكل هزلي.

جاءت المواجهات المتصاعدة في الضفة الغربية وما وازاها من حروب على غزة ليحاول بايدن احتواءها بالخبث الأميركي المعهود، حتى وقعت واقعة السابع من أكتوبر، وتدفق طوفان الأقصى، لينخرط الأميركي بالحرب على غزة بشكل كلي لم يسبق له مثيل. وفي موازاة ذلك، بدأ يروج لحل الدولتين في ظل تصاعد هذه الحرب. وقد تحولت إلى إبادة جماعية للبشر والحجر والشجر في غزة.

ركز الأميركي مشروعه السياسي الراهن ضمن مسار احتواء تداعيات الحرب على غزة. وقد تجاوزت حالة رد الفعل على نجاح المقاومة في العصف بالنسيج العصبي لـ”إسرائيل” لما هو حرب وحشية شمولية يشارك فيها الغرب بكل قواه من دون تردد، رغم الاستدارة الأوروبية والأممية اللاحقة، على وقع الهجمات الإسرائيلية على المشافي والمدارس وسفك دماء الأطفال والنساء بعشرات الآلاف، وتحويل غزة إلى ركام هو الأول من نوعه منذ الحرب العالمية.

لم يجد الأميركي في نصله سهماً ليسدده في وعي الأمة الموجوعة على المجازر الإسرائيلية سوى هذا الرقص على مذبح الإنسانية في غزة بالترويج لحل الدولتين، حتى إن الذيل البريطاني أعلن نيته الاعتراف بدولة فلسطينية بشكل أحادي بعد وقف الحرب، ليعلن السيد الأميركي أنه هو الآخر يدرس فكرة كهذه، في محاولة لتنظيم مسار النظام العربي الرسمي، وخصوصاً في القاهرة وعمان والرياض ورام الله، وربما الدوحة وأنقرة، في محاولة عبثية للتأثير في القيادة السياسية للمقاومة.

لا يختلف الأسلوب الأميركي السياسي في التعامل مع مفهوم التسوية لهذا الصراع عن أساليبه القديمة في خبرته الضليعة مع ضحيته الهندية. وقد ظل يجرجرها حتى أجهز على الروح فيها سوى بعض الارتباك الذي خلّفته واقعة السابع من أكتوبر، وهو ارتباك مرده لطبيعة العقيدة السياسية للمقاومة، وهوية تحالفاتها الميدانية من طهران وصنعاء حتى بيروت، ولا يتجاوز ما صرح به بعض قادة حماس من قبول لدولة فلسطينية مستقلة ما صدر عن مؤسسهم الشيخ الشهيد أحمد ياسين منذ أكثر من 3 عقود دون جديد، وهو قبول يصطدم بحائط الحرمة الشرعية والعقائدية للاعتراف بأي شرعية للكيان الإسرائيلي، وهي حرمة تعلنها حماس من دون أدنى مواربة.

حرمة الاعتراف بـ”إسرائيل” تتفق عليها كل قوى محور المقاومة، وخصوصاً حركة الجهاد الإسلامي، التي تقاتل في طوفان الأقصى كفصيل ثانٍ بقوة تلفت النظر، لكونها خرجت من عدة حروب متلاحقة تعرضت لها تباعاً خلال السنوات الثلاثة الماضية، وهي ترفض مبدأ التسوية، بما فيها القبول السياسي بدولة فلسطينية مستقلة، باعتبار ذلك تسويغاً لمبدأ التسوية، على أرضية ما سبق أن بلوره المؤسس الشهيد فتحي الشقاقي من رؤية فكرية استراتيجية باستحالة جيوسياسية لوجود دولتين بين نهر الأردن والبحر المتوسط.

هذه الاستحالة الجيوسياسية لحل الدولتين عبّر عنها رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بيبي نتنياهو عقب إعلان الرئيس الأميركي بايدن اتفاقه معه على مبدأ إقامة دولة فلسطينية بجوار “دولة إسرائيل”، وإن ليس بالضرورة أن تكون دولة بجيش عسكري، ليخرج نتنياهو عقب ذلك مؤكداً استحالة ضم غور الأردن إلى دولة كهذه، وهو ما يعوق في رأيه وجودها من الأساس، حتى استقر الأمر أخيراً على التصويت داخل حكومة الكيان برفض إقامة دولة فلسطينية.

استقر المسعى الأميركي في المحاولة الأميركية المتجددة نحو حل الدولتين لتراود أحلام دول التطبيع من دون نجاح الأميركي حتى في إيجاد حل حقيقي لأموال مقاصة الضرائب الفلسطينية، ولا في القدرة على إعادة تجديد السلطة الفلسطينية للإجابة عن السؤال الافتراضي لليوم التالي لوقف الحرب، وهو بالأساس سؤال إسرائيلي داخلي يلهث خلفه الأميركي، ومعه منظومة التطبيع، على اعتبار قدرة “إسرائيل “على تحقيق أهداف الحرب بالقضاء على المقاومة عسكرياً وسياسياً.

ليس ثمة أفق لنهاية وشيكة للحرب، فلا نتنياهو يمكنه الاعتراف بفشل حربه الطائشة، ولا المقاومة يمكنها الاستسلام بحال، والأميركي تيقن منذ شهرين انسداد أفق الحرب، وأن الإسرائيلي عاجز في متاهة أطماع نتنياهو الشخصية. لذا، يحاول حماية “إسرائيل” من نفسها، عبر محاولة وقف الحرب على أرضية إطلاق مشروع سياسي يراد منه أن تتآكل إنجازات المقاومة، فما عجزت عنه الميركافا الإسرائيلية يمكن تحقيقه بدبلوماسية كيسنجر التي تم تجريبها في أكتوبر 1973، ولكن الكيان غارق في تناقضاته، وهو يتأرجح كالثور الجريح على وقع صدمة السابع من أكتوبر.

يجهل الأميركي أن الكيان الإسرائيلي دخل في مرحلة ما بعد التغلب اليميني على القضاء، وإن ألغته محكمته العليا، ولكن تبعاته خلّفت ندوباً عميقة في المجتمع أفقياً وعمودياً، وهو لا يستطيع الخروج من أتون الحرب على غزة، مع تفرعها إلى مواجهات قد تتطور إلى حروب أخرى، وخصوصاً مع لبنان، مع تصاعد مواجهات الضفة وعنف المستوطنين، بما يحول دون نجاح الأميركي في مساره السياسي الجديد في ظل استعصاء المقاومة وتوسع أفقها على امتداد البحر والبر .

– الميادين نت

مقالات ذات صلة