” الأمم المتحدة ” الأمريكية

حرير – لا تتعلق أهمية «السلام» في خطاب الغرب بمدى الصدق الذي يُبشّر به فيه. فـ«السلام» مصطلح هدفه الإلهاء، تتحدد كثافة ووتيرة استخدامه وفق مفهوم الهيمنة الذي يكتنفه. وعلى عكس السلام الفعلي، أي غياب العداوات، فإن هذا «السلام» أداة حربية سياسية ونفسية توظف لتحقيق ما يمكن وصفه بالإنكار اللغوي.

إن الهدف الاستراتيجي لـ«السلام»، بغض النظر عن الطريقة التي يُمدح أو يُروج بها، هو حرمان الأعداء من التحكم ليس فقط بالرواية بل بالمفردات اللازمة للتعبير عن مصالحهم. فالقصف البساطي -التكتيك المحبب لدى الغرب- ينطبق على اللغة كما ينطبق على إسقاط كميات هائلة من المتفجرات من أجل إسكات الخصم. بحرمانهم من القدرة على استخدام مفردات السلام، يُجبر المدافعون عن أنفسهم، المعارضون للعدوان الغربي، على استخدام لغة الحرب. ونتيجة لذلك، يمكن ترجمة الدعوات لتجنب الحرب أو منعها إلى نوايا عدوانية.

لقد قاد الغرب العالمَ في تطوير ونشر الهيئات النقاشية العامة، والماكنات الانتخابية، ووسائل الإعلام الجماهيرية. ليس المديح والاهتمام الممنوحان باستمرار للبرلمانات تعبيرًا عن آليات ديمقراطية حيوية، أو تجسيدًا حيًا للإرادة الشعبية في شكل فعل حكومي. بل إن الغرض من هذه الهيئات ومن آليات ملئها بالناس هو خلق واستدامة ما يمكن وصفه بماكنات اللغة العامة. فبعيدًا عن المحددات الديمغرافية، تكمن مؤهلات عضوية هذه الهيئات في إظهار القدرة على إنتاج وإعادة إنتاج مخرجات لغوية ممنهجة، يوظَّف فائضها من أجل إغراق وحجب أي شكل آخر للتعبير.

في السابق، كانت الفلسفة متضمَّنة في اللاهوت، ولم يكن العلم حينها سوى تعبير مفصّل عن المقولات التي تتضمنها الفلسفة. لحقبة اتضح قصرها، إذ دامت أقل من مئتي عام، استغنى العلم عن المصطلحات اللاهوتية. لكن في أواخر القرن العشرين، أعيد إدماج العلم في الدين، وبدلًا من أن يكون العلم حصيلة السعي الجماعي والفردي للبحث في المجال الإمبريقي وإنتاج المقولات والممارسات التي تسهل التطويع المفيد للبيئة، بات العلم نظامًا تنتج فيه الحقيقة عبر طقوس تنص عليها نصوص مقدسة وفي الغالب غير قابلة للفهم.

كانت شرارة هذه الردة عن الإنسانوية والعودة لنظام الكهنوت هي مشروع مانهاتن، أكبر مشروع بحث علمي في التاريخ الحديث. استقطب مشروع مانهاتن تقريبًا كل عضو هيئة تدريسية علمية أو تقنية في الولايات المتحدة لاختراع أكبر سلاح للدمار الشامل على الإطلاق. كانت القنابل الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي التعبير المطلق عن العدمية الغربية. لم يرفع هذا المَحق غير المبرر لمدينتين كاملتين الولايات المتحدة إلى ذروة التفوق في العنف فحسب، بل عبّر عن ذروة الإمبريالية الغربية كذلك. فكما أشار أستاذ هارفارد صموئيل هنتنغتون بإيجاز في كتابة سيء الصيت «صراع الحضارات» (1994):

لم يفز الغرب بالعالم عبر تفوق أفكاره أو قيمه أو دينه (التي لم يعتنقها سوى قلة قليلة من أعضاء الحضارات الأخرى) بل عبر تفوقه في توظيف العنف المنظم. كثيرًا ما ينسى الغربيون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسونها أبدًا.

إن التنظيم الذي أنتج هذه الأسلحة مانحًا الولايات المتحدة سلطة الاغتصاب الدولي دمّر كذلك ما تبقى من العلم المستقل. وفي الوقت نفسه، قاد التمويل الضخم -المقدر بالمليارات بعملة اليوم- الذي مكّن من تطوير القنابل الانشطارية ولاحقًا القنابل الذرية الحرارية (الهيدروجينية) إلى إطلاق التلاعب الواسع بالمواد الحية، المعروف بالهندسة الجينية. مع هذه التقنيات، أحيط الرعب القادم بسرية تامة، وولد كهنوت جديد. فبدلًا من حكماء اللاهوت السماوي الذين يرقّيهم المطارنة ويحكمهم بابا روما، تنال هذه الطبقة الكهنوتية الجديدة رُتبها عبر التصاريح الأمنية، أي القدرة على الاطلاع على الأسرار.

حتى السبعينيات، ظل حكماء واشنطن ينظّرون بأن من الإثم استخدام مثل هذا السلاح المروّع. لكنهم في الوقت نفسه فعلوا كل ما بوسعهم لمنع الدول الأخرى من امتلاك هذا السلاح. ثم وُظّف خطاب «السلام» في اللحظة التي حظي فيها الاتحاد السوفيتي بقنابله الذرية، وصولًا إلى قنبلة القيصر. بات نزع السلاح والحد من التسلح أداة استخدمتها الولايات المتحدة لإخفاء الهدف الأصلي وراء الأسلحة والتطور التكنولوجي اللاحق، إضافة لعرقلة تطور الأسلحة السوفيتية. وكما أخفت الولايات المتحدة امتلاك دولة الاحتلال في فلسطين قدرات صناعة قنبلة ذرية، فقد أخفت بنجاح كذلك أن الهدف من قنابلها الذرية كان تدمير الاتحاد السوفيتي (وفي نهاية المطاف، جمهورية الصين الشعبية). ورغم رفع السرية عن تاريخ السياسات الاستراتيجية الأمريكية التي يعبر فيها عن هذه الأهداف بوضوح شديد، فقد حجب ستار «السلام» الجوهر النووي للسياسة الأمريكية العدوانية عن أعين أغلب العامة، داخل الولايات المتحدة وخارجها.

كان هذا الحجب نتيجة قصدية لإعادة هيكلة العلم باعتباره عصبةً للسياسة الحربية الوطنية، المسماة «دفاعًا» من باب التلطيف. وشكّل المشروع المشترك بين القطاعين العام والخاص، المعروف باسم الأمم المتحدة، المكمّل لاستعادة السيطرة على السعي وراء المعرفة العلمية. بتسويقها باعتباره النسخة «الجديدة والمحسنة» من عصبة الأمم التي شكلت بعد الحرب العالمية الأولى، وزُعم أن رابطة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية هذه ستحمي العالم من أهوال الحروب في المستقبل.

تشكلت الأمم المتحدة في البداية من خمس هيئات: أنيطت الإدارة بالأمانة العامة، ومنحت الدول الأعضاء ممثلًا في الجمعية العامة على أساس صوت واحد لكل دولة. وأنيطت مهمة حفظ السلام بمجلس الأمن الذي تختاره الجمعية العامة، مع منح قوى الحلفاء الكبرى (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والاتحاد السوفيتي، والصين) حق نقض أي قرار يتخذه المجلس (وبالتالي خلق كابح لأي أغلبيات يمكن أن تتشكل في الجمعية العامة). إضافة لذلك، كُلف المجلس الاقتصادي الاجتماعي بمهام التنمية الاجتماعية، وشُكل مجلس الوصاية للتعامل مع ما سمّاه ميثاق الأمم المتحدة «المناطق غير المتمتعة بالحكم الذاتي»، أي البلدان التي كانت ما تزال تحت انتداب عصبة الأمم أو الحكم الاستعماري. سرعان ما أُبعد المجلس الاقتصادي الاجتماعي ومجلس الوصاية إلى مجاهل الدبلوماسية الدولية، واختزلت الجمعية العامة في نادٍ نقاشي، وبات مجلس الأمن والفرق الدبلوماسية الدولية التي توظفها الأمانة العامة الأجهزة الفعّالة الوحيدة في هذا الصرح العظيم.

الأمم المتحدة هي تنظيم يستند إلى تفسير أبطلته القنبلة الذرية، ولم تستطع سبعون عامًا أن تغير حقيقة أن منظمة انبثقت من رحم الإبادة الذرية لا يمكن أن تولّد سوى الموت في كل جيل.

لم يفت وقت طويل حتى سقط ادعاء حفظ السلام. إذ سرعان ما باتت هذه المؤسسة الدولية الكبرى بنفسها شريكة في أطول حرب مستمرة في التاريخ الحديث: الاجتياح الأمريكي لجمهورية كوريا عام 1945، والحرب الأهلية التي أطلقها، بمشاركة قوات الأمم المتحدة (أي القوات الأمريكية المتخفية). منذ ذلك الحين، لم يحدث قط أن منعت الأمم المتحدة، عبر مجلس الأمن، الحرب أو نجحت في استعادة السلم في أي صراع مسلح. بل على العكس، ضمنت هيمنة الولايات المتحدة على مجلس الأمن أن يصبح ما يسمى بالخوذ الزرقاء حصان طروادة للقوى الغربية حيثما نُشرت في كل أنحاء العالم. إذ تمثلت مهمتها الأساسية في منع السكان المحليين من امتلاك قرار شؤونها الداخلية بأي طريقة تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا.

كيف يعقل أن تُخان هذه الثقة المقدسة التي قيل للعالم إن بوسعه منحها لهذه المؤسسة الدولية العظيمة قبل أن يجف الحبر عن ميثاقها الموقع في سان فرانسيسكو عام 1945؟ لمَ لمْ تعترض الدول الأعضاء، التي ارتفع عددها من 45 إلى 194 اليوم، على هذا النفاق والاستغلال العدواني للهياكل الدولية؟ ولمَ تقبل الحكومات نظام الحرب المستمر هذا ضد شعوبها وحقوقهم الإنسانية في التنمية السلمية وتقرير المصير؟

ثمة عوائق كبرى بُنيت كجزء من النظام، ليس عَرَضًا وإنما بفضل السلطة المطلقة للقوة التدميرية التي تمتلكها الولايات المتحدة وتابعوها. ففي البداية، جاءت القوة السرية للقنبلة الذرية واستعداد الولايات المتحدة المبرهن لاستخدامها ضد جموع مدنية هائلة. ثم جاءت قوة حق النقض التي مُنحت لثلاث من الإمبراطوريات التي لم يكن لديها أي مصلحة في تغيير الوضع القائم. ورغم أنها ليست رسميًا جزءًا من منظمات الأمم المتحدة، فقد خلقت اتفاقيات بريتون وودز، تحت السيطرة الأمريكية، أسلحةً للدمار الاقتصادي الشامل، باتت تعرف باسم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. دمرت الحرب العالمية الثانية معظم القدرة التصنيعية للعالم وعطّلت التجارة الدولية، ما ترك السوق العالمي أسيرًا للولايات المتحدة، التي امتلكت أدوات الابتزاز المالي، وكانت الدولة الوحيدة التي لم تمس قدرتها الزراعية والتصنيعية بالعنف والفوضى اللذين شهدتهما العقود الثلاثة الماضية. أخيرًا، امتد تدمير قوة الدولة في جزء كبير من العالم إلى المؤسسات السياسية والمدنية، ما منح الولايات المتحدة الاحتكار في سوق السلع الاستهلاكية والمعلومات، بما يشمل الترفيه.

رغم أن الاتحاد السوفيتي سلّح نفسه بقنابل ذرية قوية، إلا أن ذلك كان موقفًا دفاعيًا محضًا. كان الخبراء الأمريكيون يدركون أن الاتحاد السوفيتي سيحتاج ما لا يقل عن 20 عامًا ليعود إلى مستويات ما قبل الحرب، من حيث السكان والاقتصاد. وحين نقض الرئيس الأمريكي هاري ترومان اتفاقية يالطا التي وقعها سلفه فرانكلين روزفلت عام 1945، عمّق الشروط التي كان من شأنها أن تعزل الاتحاد السوفيتي عن بقية العالم. عبر رفضها الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية، فرضت الولايات المتحدة حصارًا بحكم الأمر الواقع على غالبية آسيا. ثم جاء القصف البساطي لكوريا وفيتنام ليعزز هذا الحصار، ويقود لقتل أكثر من مليون إندونيسي، مع استمرار المذابح في الكونغو وغيرها من بلدان إفريقيا الوسطى. كانت كوبا وحدها، الخاضعة حتى اليوم لحصار لا تستطيع الأمم المتحدة إنهاءه، مَن تمكنت من منع غزو قوات الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة أو وكلائهما.

إذن، ما الذي تفعله الأمم المتحدة في الحقيقة، إن لم تكن تحفظ السلام؟

باعتبارها رأس هرم الدبلوماسية الدولية، فإن الأمم المتحدة هي أعلى هيئة نقاشية في العالم. وفي هذا الإطار، يمكن رؤية وظيفتها الفعلية: إنها مؤسسة خُلقت من أجل الإلهاء والإنكار. في أروقتها يحل الكلام عن «السلام» محل السلام، ويملأ هيئاتها المتخصصة وكلاء الولايات المتحدة وتابعوها، الذين يعود الفضل في مناصبهم وامتيازاتهم الدبلوماسية الواسعة إلى رعاية الولايات المتحدة وشركاتها. وبدلًا من توظيف خبراتهم المزعومة لدعم الدول الأعضاء، ينفق هؤلاء البيروقراطيون العابرون للحدود الموارد المغدقة على الأمم المتحدة في التلاعب بالسياسات الوطنية والمحلية. حتى الوعود بالتعيين أو توسيع امتيازات العضوية للبعثات الدبلوماسية للدول الصغيرة والمتوسطة باتت توفر للشركات وأعضاء مجلس الأمن الدائمين فرصة للرشاوى والابتزاز. ويحول حق النقض دون وصول أي مبادرة جادة من طرف الجمعية العامة إلى حيز التبني والتنفيذ.

ليس «الكلام» عن السلام وحفظ السلام الامتياز الوحيد الثابت للولايات المتحدة. فبفضل سيطرة الشركات الأمريكية على الإعلام الجماهيري العالمي، يمكن لهذا «الكلام» أن ينفجر كفيضان من «السلام» و«المصالحة» و«حقوق الإنسان» و«السوق الحر»، يغرق أي صوت مختلف وكل مقترح أو حجة لا تتفق مع إرادة الأوليغارشية الأمريكية. في آذار الماضي، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للصحفي الأمريكي المحافظ المعروف، تاكر كارلسون، بوضوح شديد إن أشد بوادر حسن نيته صراحةً وعلانيةً تجاه حكام الولايات المتحدة والناتو لن تلقى آذانًا صاغية. فكما كان الاتحاد السوفيتي، لا تملك روسيا اليوم ولا الصين أي سلطة على وسائل الإعلام الجماهيري العالمية. قد يكون هناك معجبون بالفودكا الروسية الأصلية، وقد يتناول الملايين الأكل الصيني بشكل منتظم، لكن كل هذا لن ينافس كوكا كولا أو ليفايس. قد تنتج الهند أفلامًا أكثر من هوليوود، وقد يحظى المؤلفون الموسيقيون الروس بشهرة عالمية. الكل سمع بسور الصين العظيم، ولكل منا الكثير من الأشياء المختومة بعلامة «صنع في الصين». لكن حين تتحدث موسكو أو بكين عن «السلام»، فإن ما يسمعه الغرب هو «اللاحرب».

لعقود، طالبت الغالبية العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بإنهاء الفظائع التي فرضها الاحتلال في فلسطين عبر أجهزة دولة الاستعمار الاستيطاني. إلا أن عبء السلام لم يُلقَ على من يحتكر العنف المسلح ولغة «السلام». بل استخدمت هذه اللغة، فضلًا عن الأسر والتعذيب والقتل والتدمير، ضد من يتمنون أن ينعموا السلام. ووُظفّت الأدوات الدولية والدبلوماسية بعنف لقمع أي سلام لا يتساوى مع الاستسلام المطلق.

ليست الأمم المتحدة عديمة الفائدة كما يزعم الكثيرون؛ على العكس، فقد أثبتت أنها مشروع مفيد ومربح للغاية. فعبر هيمنتها على اللغة الدبلوماسية الدولية، نجحت في تحويل الانتباه بعيدًا عن مغزى الدبلوماسية

قُتل ما لا يقل عن 20 مليون مواطن سوفيتي نتيجة الاجتياح الغربي للاتحاد السوفيتي بقوات ألمانيا النازية وأوكرانيا المحتلة. لكن الرقم الوحيد المتداول هو لضحايا أوروبا الغربية، المقدر عددهم بستة إلى سبعة ملايين. كل سنة، يحيي الحلفاء الغربيون ذكرى اجتياح النورماندي، التي يُحتفل بها فقط لإخفاء حقيقة أن الاتحاد السوفيتي هزم قوات الفيرماخت الألمانية بشكل أحادي. ظل هذا الازدراء الغربي ودوافعه الدفينة مخفيين رسميًا إلى أن حل بوتين محل مندوبهم بوريس يلتسن. وفي الأثناء، حوّلت الماكنات اللغوية والنقاشية الاجتياح النازي للاتحاد السوفيتي، المعروف بعملية بارباروسا، إلى ما يشبه لعبة ملاكمة بين الشيطان الغربي والشيطان الشرقي. اليوم، يُكرم أعضاء الفيرماخت والفافن إس إس، كما حدث في البرلمان الكندي، بوصفهم أبطالًا أوائل في المعركة الممتدة ضد روسيا. ليس هذا نتيجة خطأ أو نفاق، بل هو اعتراف بما جاء شعار «السلام في عصرنا» لتحقيقه حقًا. إن العشرين مليون صيني الذي قُتلوا خلال الاجتياح الياباني، والذين تصالح الغرب مع مقتلهم ضمن مسعاهم السقيم للتخلص من الشيوعيين، هم خارج الحسبان. إلا أن جزءًا صغيرًا من حصيلة ضحايا الحرب العالمية الثانية ما زال يستخدم لتبرير احتلال الأوروبيين والأمريكيين لفلسطين. ولن يكون ذا طائل أن نبدأ عد الضحايا من الكونغو، حيث قتل أكثر من 10 ملايين منذ انسحاب بلجيكا، بعد اغتيالها أول رئيس وزراء للبلاد. فـ«السلام» في إفريقيا لا يعني سوى حجم الحصة التي تسيطر عليها الشركات الغربية؛ الشركات ذاتها التي انتفعت من ضحايا أوروبا الشرقية بين عامي 1939 و1945.

ليست الأمم المتحدة عديمة الفائدة كما يزعم الكثيرون؛ على العكس، فقد أثبتت أنها مشروع مفيد ومربح للغاية. فعبر هيمنتها على اللغة الدبلوماسية الدولية، نجحت في تحويل الانتباه بعيدًا عن مغزى الدبلوماسية. وبوصفها غطاءً للعمل العسكري والتقويض السريين، تحول الأمم المتحدة الانتباه بعيدًا عن مسببي الحرب الحقيقيين في عالم لطالما استنزفته الحروب. فضلًا عن ذلك، عبر استحواذها على العلم الكهنوتي الذي ولد مع مشروع مانهاتن، تقمع الأمم المتحدة وهيئاتها المتخصصة أي استقصاء علمي أصيل، كما تقمع المعرفة المطلوبة لعلاج الأمراض التي تسببت بها إمبراطوريات ترفض أن تموت.

ما يزال هناك مكان للدبلوماسية الحقيقية في هذا العالم. إن نشوء النزاعات بين الشعوب أمر طبيعي مثله مثل نشوئها بين الأفراد. والمشاكل التي تُحل تكشف أو تخلق مشاكل جديدة للحل والاستكشاف. هذا ما يَعِد به العلم البشرَ، بل هذا هو جوهر الإنسانوية. فكل تفسير يستتبع تنظيمًا، وكل تنظيم يمكن أن يفهم بوصفه تفسيرًا. الأمم المتحدة هي تنظيم يستند إلى تفسير أبطلته القنبلة الذرية، ولم تستطع سبعون عامًا أن تغير حقيقة أن منظمة انبثقت من رحم الإبادة الذرية لا يمكن أن تولّد سوى الموت في كل جيل. إن كان للكلام عن «السلام» أن يُستبدل بفعل السلام، فمن الواضح أننا بحاجة لتفسير جديد للعلاقات الدولية، وللتخلي عن الماكنات اللغوية التي خُلقت من أجل تأبيد الحرب، واستعادة كرامة البشر الحقيقيين التي تشمل استعادة لغتهم وأصواتهم.

مقالات ذات صلة