مدينة القدس بين إصرار الاحتلال وتلكؤ الأمة

سعيد الشهابي

حرير- عندما تأسس نظام الاحتلال الإسرائيلي قبل ثلاثة أرباع القرن، كان المشروع الصهيوني يرفع شعار «من النيل إلى الفرات»، أي إن ذلك الاحتلال لم يكن إلا بداية مشروع واسع يتطور تدريجيا ويحظى بدعم غربي كامل. كان ذلك الشعار يبدو للكثيرين ضربا من الخيال وأن العالم لن يسمح بذلك.

وبعد حرب حزيران في العام 1967، كان الشعار الذي طرحه الصهاينة يقول؛ إن القدس ستكون «عاصمة إسرائيل الأبدية». ومرة أخرى كان هذا الشعار يبدو خيالا، خصوصا أن الأمم المتحدة لم تعترف بالاحتلال الإسرائيلي للمدينة المقدسة. وعلى مدى أكثر من نصف قرن، كانت هناك استراتيجيتان تدوران حول هذه الشعارات، وقد عمل المحتلون الصهاينة لتثبيت خطتهم وتفعيلها بوسائل شتى: الضجيج الإعلامي، العدوان المستمر الذي لا يتوقف، الإعداد لحروب مستقبلية، تجاهل النداءات والقرارات الدولية التي تعد القدس مدينة محتلة، وتمييع الموقف العربي بإقامة علاقات مع الدول العربية مع التمسك بالشعارات والأهداف.

أما الاستراتيجية العربية، فقد غابت تماما، ولم يكن هناك تمهيد لجهود مستقبلية تهدف لتحرير الأراضي المحتلة أو التشبث بالمدينة المقدسة. هاتان السياستان ميزتا التحركات الإسرائيلية والعربية، ومن المؤكد أن كسر الموقف العربي من قبل أنور السادات بعد حرب أكتوبر، التي تمر بعد أسبوعين ذكراها الخمسون، كان بداية تراجع الموقف الرسمي العربي من تلك المشكلة التي كانت تعد طوال ربع القرن السابق القضية المحورية الأولى في المنطقة، وقضية العرب والمسلمين في العالم. مع ذلك، تحوّلت القضية الفلسطينية بمرور الوقت إلى عنوان للتحرر الوطني في العالم الثالث، وتشبث بها دعاة الإصلاح السياسي في العالم العربي، فإذا تراجع موقعها نجم عن ذلك انكفاء النشاط التحرري، وصفا الجو للديكتاتورية والاستبداد.

ما الجديد في الأمر إذن؟ هناك حقيقة مؤلمة تتحدى من بقي من جيل التحرر الوطني، تتمثل بما بلغته الاستراتيجيتان المذكورتان، وهي حقيقة تكشف مدى تراجع إرادة الأمة من جهة، وهيمنة التحالف الغربي على الساحة السياسية المرتبطة بالقضية، وتلاشي مقولات التضامن العربي والعمل المشترك ومحورية القضية الفلسطينية وسواها من جهة أخرى. الملاحظ هنا، أن رواد المشروع الصهيوني استمروا في سياساتهم الأساسية، ولم يساوموا على ما طرحوه من شعارات وأهداف، فقد عمدوا لتبريد خطوط التماس بين الحكومات العربية و«إسرائيل»، وسعوا لتغيير مواقف دول ما يسمى «العالم الثالث»، التي كانت ملتزمة بقضية فلسطين ورافضة التطبيع مع الاحتلال، وساهمت بشق الصف العربي باستهداف الأنظمة الرخوة في مواقفها، وجرها للمشاريع التي بدأت بمد العلاقات مع «إسرائيل» ثم اتخذت مسارات التطبيع. وما أكثر المصاديق على ذلك. فالقضية الجوهرية هنا تتمحور حول مدينة القدس وموقعها في المشروعين: التحرري والإسرائيلي.

يرى قرار مجلس الأمن الدولي رقم (478) لعام 1980 أن جميع الإجراءات الإسرائيلية في القدس باطلة، في حين جددت الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 2017 دعوة جميع الدول إلى «الامتناع عن إنشاء بعثات دبلوماسية» في مدينة القدس. ومنذ سنوات، تحرك داعمو المشروع الصهيوني بخطوات عملية لتسهيل عملية السيطرة الكاملة والنهائية على المدينة المقدسة، فبدأت سياسات تهويدها وإخلائها من سكانها الأصليين، ولم يصغوا لمواقف الشجب والاستنكار التي كانت فارغة المحتوى وغير مصحوبة بتبعات خطيرة. وبموازاة ذلك، مارست الإدارات الأمريكية المتعاقبة سياسة فرض الأمر الواقع تجاه القدس. بدأ ذلك بإعلان واشنطن في أيار/مايو 2018 نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وتبعتها دول أخرى. وآخر هذه الدول جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي قال نتنياهو الأسبوع الماضي إنها ستنقل سفارتها لدى كيان الاحتلال من تل أبيب إلى القدس. كما أن فيجي ستفتتح لها سفارة في القدس العام المقبل، تنفيذا لوعد انتخابي قطعه حزب جافوكا السياسي. وفي الشهر الماضي، افتتحت بابوا غينيا الجديدة المجاورة سفارة في القدس، لتصبح الدولة الخامسة التي لديها بعثة دبلوماسية كاملة في القدس بعد الولايات المتحدة وكوسوفو وغواتيمالا وهندوراس، بينما تحتفظ غالبية الدول بتمثيلها الدبلوماسي في مدينة تل أبيب الساحلية، المركز الاقتصادي الرئيسي لكيان الاحتلال.

قد لا يكون هذا العدد من الدول التي قررت نقل سفاراتها إلى القدس كبيرا، ولكنه يمثل كسرا للقرارات الدولية، وفرضا للأمر الواقع من قبل هذه الدول، وكذلك من الكيان الإسرائيلي الذي يصر على المضي في قضم القدس كعاصمة لكيان الاحتلال. هنا، يبدو أن الإسرائيليين ماضون في سياستهم التي أعلنوها قبل نصف قرن، بينما ليست هناك سياسة عربية ثابتة لوقف هذا التداعي في الموقف، ولم تعبر الدول العربية، من الناحية العملية، عن رفض نقل السفارات إلى القدس، ولم تذكر أي خطوات جماعية من الدول العربية للتصدي للدول التي تقوم بذلك. ولا شك أن غياب الرادع سيشجع المزيد من الدول لنقل سفاراتها إلى القدس، وتأكيد سيادة «إسرائيل» على تلك المدينة المقدسة. إنها واحدة من الفصول المأساوية في القضية الفلسطينية التي كان الزخم المرتبط بها قبل عقود رادعا للآخرين عن مسايرة المشروع الصهيوني. ومن المؤكد أن لدى الدول العربية من أدوات الردع ما يكفي لوقف هذا التداعي المخجل في الموقف، فلديها الموقف الجماعي الذي يمثل أكثر من عشرين دولة عربية، تدعمها أكثر من ثلاثين دولة إسلامية أخرى، يفترض أن تحمل حكوماتها همّ فلسطين وتسعى للدفاع عنها. ولا شك أن تداعي الموقف العربي ينعكس سلبا على الموقف الإسلامي، وبذلك تخسر القضية الفلسطينية رافدين سياسيين كبيرين يدعمان خيارات التحرير، ويتيح للصهاينة فرصة للاستمرار في جذب الدول إلى جانب «إسرائيل».

أما الشق الآخر من الاستراتيجية المرتبطة بالقضية الفلسطينية، فيتصل بجوهر سياسات الدول العربية والإسلامية إزاء قضية فلسطين، وأهم مفاصلها التواصل أو القطيعة مع كيان الاحتلال. فعلى مدى ثلاثة أرباع القرن، لم يصدر عن الاحتلال ما يشير إلى ضرورة التواصل معه؛ فهو يصر على الاحتلال ولا يقبل أن يتنازل ذرة واحدة عن ذلك المشروع، ويستمر في استهداف الدول العربية المجاورة، كما فعل الأسبوع الماضي عندما قصف مبنيين تابعين لسوريا في الجولان، كما أنه يسعى لفرض إرادته بالقوة العسكرية والأمنية المفرطة، ويهدف من ذلك لكسر إرادة المقاومة سواء لدى الشعب الفلسطيني ومنظماته المقاومة، أم لدى الحكومات العربية التي لم تنجح في تعبئة طاقاتها الفاعلة لمقاومة الاحتلال وكسر شوكته. ولا يبدو هناك مواقف مشتركة تمثل الإجماع العربي تجاه فلسطين، فلكل حكومة سياستها التي تصر عليها، ومن بينها سياسات التقارب والاعتراف والتطبيع. وهنا تبرز أمريكا، سواء تحت إدارة بايدن أو من سبقه أو من يلحقه، التي تتبنى بشكل كامل مشروع التطبيع العربي مع كيان الاحتلال. وعندما تتمنّع دولة عن مجاراة مشروع التطبيع تتعرض لضغوط أمريكية هائلة، فيتم حرمانها من الصفقات العسكرية مثلا، أو تحاصر في مجال المشاريع النووية إذا كانت تتطلع لامتلاكها. ويتم تسليط وسائل الإعلام عليها لكسر إرادة حكامها، فبعد التطبيع الذي قامت به حكومتا الإمارات والبحرين قبل ثلاثة أعوام، بدا أن عجلة التطبيع تباطأت، ومرة أخرى تحرك اللوبي الصهيوني لدفع إدارة بايدن لإعادة تحريكها. وفي أجواء الدورة الثامنة والسبعين للأمم المتحدة، كانت هناك اتصالات واسعة بين زعماء الدول الـ 145 الذين تحدثوا في الدورة، وكانت قضية فلسطين حاضرة ولكن بشكل خجول. هذا برغم أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش أشار في كلمته الافتتاحية لتلك المشكلة التي استمرت أكثر من ثلاثة أرباع القرن، مؤكدا أن تصاعد العنف وإراقة الدماء في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يؤدي إلى خسائر فادحة في صفوف المدنيين، وأن الإجراءات أحادية الجانب تتصاعد وتقوّض إمكانية التوصل إلى حل الدولتين.

ولدى داعمي المشروع الصهيوني خططهم لتفتيت ما بقي من تماسك الرفض العربي والإسلامي للتطبيع؛ فإدارة بايدن تواصل جهودها لتوسيع دائرة التطبيع وفق الشروط الإسرائيلية، وهي بصدد إعداد إطار عام لاتفاق لإقامة علاقات بين إسرائيل والسعودية، قد يصبح جاهزا بحلول مطلع العام المقبل، وذلك بعد أن أشارت الدول الثلاث إلى إحراز تقدم في المفاوضات المعقدة. وتهدف أمريكا أن يعيد التطبيع رسم منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير، ليتم الجمع بين شريكين رئيسيين للولايات المتحدة في مواجهة إيران. وهذا هدف يناقضه التوجه السعودي لتطوير العلاقات مع إيران. ولكنْ، ثمة قلق من أن يؤدي تبريد خطوط التماس بين أمريكا وإيران إلى تحييد الموقف الإيراني إزاء كيان الاحتلال، وثمة مؤشرات على تخفيف التوتر بين واشنطن وطهران، من بينها الإفراج المتبادل عن السجناء والإفراج عن بعض الأموال الإيرانية المجمّدة. وتطمح الرياض في تطوير مشروعها النووي بدون معوّقات من أمريكا التي ستفرض عقوبات إذا تلكأت الرياض في مشروع التطبيع.

في هذه الأجواء، هناك حاجة ملحّة لموقف عربي متماسك يعيد قدرا من الهيبة لهذه الأمة، التي تتفاقم أزماتها تارة لأسباب ذاتية وأخرى خارجية.

مقالات ذات صلة