السفن الحربية الأميركية: جئنا لنوقف الهجرة من “إسرائيل”

لم يكن تأييد الولايات المتحدة الأميركية المطلق وغير المشروط للعدوان الإسرائيلي على غزة مستغرباً، ففي كل المجازر والاعتداءات التي مارستها الحكومات الإسرائيلية عبر التاريخ كانت واشنطن هي الداعم.

منذ اللحظات الأولى لعملية “طوفان الأقصى”، سارعت الولايات المتحدة الأميركية إلى إرسال المزيد من جنودها وسفنها الحربية إلى المنطقة، تارةً بذريعة الحيلولة دون توسع ما تسميه بـ”الصراع” إلى دول المنطقة، وتارة أخرى بذريعة تعزيز إجراءات حماية مصالحها وقواعدها العسكرية المنتشرة في كل من العراق وسوريا.

لكن عملياً كل هذا لم يتحقق، فالاشتباكات المستمرة بين عناصر المقاومة وجيش الاحتلال انتقلت من جبهة قطاع غزة إلى جنوب لبنان، والقوات اليمنية قصفت أهدافاً داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما أن القواعد الأميركية في كل من العراق وسوريا تكاد تتعرض يومياً لهجوم واحد على الأقل، والبنتاغون أكد بوضوح تعرض قواعده في البلدين لأكثر من 27 هجوماً خلال الأيام القليلة الماضية.

في واقع الأمر، إن الغاية الأساسية من مسارعة بعض السفن الحربية الأميركية إلى المرابطة في المنطقة، وتحديداً في البحر المتوسط، كانت محاولة طمأنة الإسرائيليين الذين هرع الكثير منهم إلى المطارات هرباً من كيان ظهر في الأيام الأولى من عملية “طوفان الأقصى” كأنه في طريقه إلى الانهيار السريع، ولا سيما مع الصور الأولى المتداولة لعناصر كتائب “القسام” وهم يسحبون الجنود الإسرائيليين من داخل دباباتهم ومنازلهم وسوقهم كأسرى إلى قطاع غزة، وهذا ما سعت -وتسعى- إليه أيضاً سياسة الأرض المحروقة التي تتبعها قوات الاحتلال في عدوانها المستمر على غزة، وكأنها تريد أن تقول للمستوطنين: اطمئنوا، لا تهاجروا، لقد استعدنا قوتنا.

المقاتل المؤمن

يؤمن جنرالات الجيوش النظامية بأن الكلمة الفصل تبقى لقوات المشاة مهما تعددت وتطورت الأسلحة الموجهة عن بعد، فحيث يثبت الجندي قدمه ترتسم نتيجة أي معركة عسكرية. هذه القاعدة ثبتت صحتها في كل الحروب التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية في العقود الماضية؛ في الصومال، حيث سحل جنودها في مقديشو، وفي أفغانستان والعراق، وقبل كل ذلك في لبنان، عندما تم تفجير مقر المارينز في ثمانينيات القرن الماضي.

اليوم، تحاول “إسرائيل” في عدوانها المستمر على قطاع غزة تغيير هذه القاعدة، وإقناع نفسها بأن إفراغ آلاف الأطنان من المتفجرات على الأبنية السكنية في غزة ومسحها بذلك عن الوجود، وارتكاب مئات المجازر بحق المدنيين الأبرياء، ومحاولة تهجيرهم إلى خارج فلسطين المحتلة، يمكن أن يتيح لها السيطرة البرية على القطاع واحتلاله من جديد.

لكن كل المعطيات تشير إلى أن ذلك سيكون مجرد أضغاث أحلام استناداً إلى تجارب التاريخ الكثيرة، سواء خلال مراحل الصراع العربي –الإسرائيلي أو عمليات الغزو الاستعماري للعديد من الدول، واستناداً كذلك إلى معطيات الميدان المشكلة منذ عملية “طوفان الأقصى” وبدء العدوان الإسرائيلي وهجومه البري الفاشل بحكم معايير عدة.

ومن هذه المعطيات ما يلي:

– لم يمنع تصنيف “إسرائيل” ضمن قائمة أهم 10 مصدرين للسلاح على المستوى العالمي خلال العقود الماضية من تعرضها لهزيمة مدوية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وبحسب بيانات بحثية صدرت مؤخراً، فإن قيمة صادراتها من السلاح خلال الفترة الممتدة بين عامي 2000-2022 شكَّلت ما نسبته 2.3% من قيمة صفقات السلاح عالمياً، وهي أيضاً واحدة من أهم 10 مستوردين للسلاح منذ العام 1950، إذ تتصدر الولايات المتحدة قائمة موردي السلاح إلى الكيان الصهيوني بنسبة تصل إلى 85%، ثم تأتي خلفها كل من فرنسا وألمانيا.

وبناء عليه، فإن كل هذا السلاح المنتج والمستورد لم يوفر للكيان الصهيوني على مدار أكثر من 72 عاماً الاستقرار والأمن والسيطرة المطلقة، كما كان يسعى ويروج، فالجندي الذي يقاتل من خلف “ساتر” الخوف وعدم اليقين بعدالة قضيته سيبقى كذلك، حتى وإن امتلك أقوى الأسلحة، فهناك على الطرف المقابل مقاتل يجاهد بحياته من أجل استعادة حقه المسلوب والدفاع عن مستقبل أبنائه وحريتهم.

– رغم أن الكيان الصهيوني حشد منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي أكثر من 500 ألف جندي وآلاف الدبابات والعربات والمدافع، فإنه لا يزال عاجزاً عن التقدم براً في جانب صغير من قطاع لا تتجاوز مساحته 365 كم2، سواء كان ذلك بفعل الخوف والرعب من عواقب الهجوم البري بداية أو نتيجة الدفاع المستبسل لفصائل المقاومة وثبات مجاهديها على الأرض وتكبيدهم العدو خسائر كبيرة بالأفراد والعتاد.

وحتى لو تمكنت قوات الاحتلال من دخول بعض الأحياء والمناطق في القطاع واحتلالها، فإن المشكلة التي سيواجهها الكيان المهزوم تكمن في قدرة هذه القوات على تثبيت مواقعها من جهة، ومدى تحملها ضربات عناصر المقاومة من جهة ثانية، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان مقولة السفاح شاورن: أتمنى أن أنام وأصحو لأجد البحر قد ابتلع قطاع غزة، وهذا ما سوف يتمناه أيضاً قادة الكيان مستقبلاً والمتعاونون معهم على تصفية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحصرها بإدارة ذاتية لا تتحكم في هواء مناطقها.

حتى مع الدعم الأميركي

لم يكن تأييد الولايات المتحدة الأميركية المطلق وغير المشروط للعدوان الإسرائيلي على غزة مستغرباً، ففي كل المجازر والاعتداءات التي مارستها الحكومات الإسرائيلية عبر التاريخ كانت واشنطن هي الداعم والمساند والحامي.

ووفقاً للبيانات الدولية، فإن قيمة المساعدات الأميركية للكيان الغاصب منذ العام 1946 ولغاية بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الحالي بلغت نحو 260 مليار دولار بالأسعار الحقيقية (158.7 مليار دولار بالأسعار الجارية)، منها نحو 78% من المساعدات العسكرية.

ومع ذلك، فإن هذا الكيان، ورغم تمكنه من احتلال أراض عربية جديدة في العام 1967، إلا أنه منذ حرب تشرين عام 1973 يتلقى الهزيمة تلو الأخرى بالمفهوم الاستراتيجي، لا المفهوم العسكري الضيق، ففي حرب لبنان مثلاً خرج هذا الكيان بعد نحو عقدين من المواجهة مع المقاومة الوطنية اللبنانية مهزوماً.

وفي الأراضي العربية المحتلة، ما إن تخمد انتفاضة حتى تخرج أخرى أكثر حزماً وإيلاماً من سابقاتها. والسؤال: كيف سيكون الوضع وفصائل المقاومة اليوم تملك من وسائل الدفاع والمقاومة ما يجعلها نداً قوياً يحسب له ألف حساب؟

من دون شك، لقد أسهمت المساعدات الغربية عموماً، وخصوصاً الأميركية، وتخاذل بعض الأنظمة العربية الرسمية وتواطؤها على القضية الفلسطينية، في إطالة عمر هذا الكيان بجرائمه واعتداءاته، إنما لم يجلب له ذلك الأمن والأمان، ولم يحقق له الاستقرار، والأهم أنه لم يجلب لمستوطنيه الطمأنينة التي تجعلهم لا يفكرون في الهجرة مع سماعهم أول رصاصة تمر بجانب آذانهم، وهو في المستقبل لن يحقق أياً من ذلك.

مقالات ذات صلة